ما الفارق بين خطتي كلنتون وجنيف؟

TT

يقوم الكثير من المعلقين في هذه الأيام بتقديم تشبيهات لا معنى لها بين خطط مرحلية كاتفاقيات أوسلو و«خارطة الطريق» وبين اتفاقيات الحل النهائي ككامب دافيد وطابا ومقترحات كلنتون وجنيف. ولا معنى لهذه المقارنة فالخطط المرحلية لا تنفي أو تؤكد من بنود الحل النهائي، فالمقارنة في هذه الحالة أسوأ من مقارنة البرتقال بالتفاح. إلا أنني استغربت من المقارنة بين اقتراحات كلنتون ومبادرة جنيف والقول بأن الأولى أفضل من الثانية لأن الأولى قدمت نفس البنود ولم ينقصها سوى التوقيع النهائي، بينما الثانية هي مجرد وثيقة إعلامية لا يشترط أن تؤدي إلى إحراز أي تقدم.

بداية لا أريد الدخول في جدل «أؤيد مبادرة جنيف» أو «أعارض مبادرة جنيف»، ولكنني بكل احترام أجزم بأن كثيراً من المحللين من مؤيديها ومعارضيها ـ ولا أقصد التعميم ـ لم يقرأوا لا اتفاقية جنيف ولا مقترحات كلنتون، ولم تتعد قراءتهم الملخصات التي نشرتها وسائل الإعلام المختلفة. وأغلب القراء يعلمون الآن الكثير عن اتفاقية جنيف، ولكن ما هي «خطة كلنتون» التي يتحدث عنها الكثيرون والتي يؤكد معدو وثيقة جنيف استناد مبادرتهم إليها؟ بعد فشل مباحثات كامب دافيد في يوليو عام ألفين واندلاع الانتفاضة في سبتمبر، حاول الأمريكيون إعادة الطرفين إلى مائدة المفاوضات فقدم الرئيس الأمريكي آنذاك بيل كلنتون في شهر ديسمبر مقترحات عامة لرؤيته لحل النزاع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. ويلاحظ قارئ هذه المقترحات كثرة الجمل التي تعتمد على التأويل والتي يمكن أن يفهمها أي طرف كما يشاء مثل قضايا نسبة أراضي الضفة الغربية التي ستؤول للفلسطينيين، وحق العودة والحرم الشريف. ويؤخذ على الوفد الفلسطيني خطؤه التكتيكي بتأخره عن الموافقة، بينما سارع إليها الإسرائيليون، ولكن بعكس ما يشاع حالياً وعلى الرغم من كثرة التحفظات الفلسطينية إلا أن الفلسطينيين وافقوا عليها من ناحية المبدأ. ما دليلي على هذا؟ تصريح من مسؤول فلسطيني بعد ثلاث سنوات؟ وثيقة مخبأة في قاع المحيط؟ تقرير من المخابرات الأمريكية؟ لست عاشقاً لهذه الأدلة الخفية التي لا يمكن لأحد التأكد منها، ودليلي هو وثيقة طابا* التي كتبها المبعوث الأوروبي السابق لعملية السلام في الشرق الأوسط ميجيل موراتينوس، ويتضح لكل من يقرؤها أن كلاً من الوفدين الفلسطيني والإسرائيلي اعتمد هذه الاقتراحات خلال مفاوضات طابا التي لم تنته بما يمكن أن يطلق عليه «الحل النهائي، وقام يوسي بيلين مؤخراً كتابة مقالة بعنوان اليوم الثامن لطابا تعبيراً عن إيمانه الشخصي بأن طابا كانت ستنتهي بحل شبيه بوثيقة جنيف. قد يعلق القارئ: وما أهمية التفاصيل؟ أكثر مما تتصور! فقرار مجلس الأمن 242 ما يزال عرضة للتأويل الإسرائيلي بسبب غياب «أل» التعريف عن «أراض محتلة»، مما أعطى حجة واهية لإسرائيل لكي لا تنسحب من الأراضي المحتلة عام سبعة وستين على الرغم من أن اللغة الإنجليزية التي صيغ بها القرار لا تؤكد هذا بالضرورة، وجملة «عدم جواز الاستيلاء على الأراضي عن طريق الحرب» في مستهل القرار تنفيه بشكل مطلق ـ وحتى مع ادعاء إسرائيل بأن الحرب كانت دفاعية إلا أن القرار لم يستثن الحروب دفاعية كانت أم هجومية. وكل هذا كان بسبب جملة واحدة بل حرفين فحسب. ومع «الثقة المتبادلة بين الطرفين واعترافهما بحقوق الآخر» يمكنك تصور الكوارث التي ستنجم عن استخدام وثيقة من ثلاث صفحات على الأكثر مليئة بالجمل التأويلية. والواقع أن وثيقة جنيف التي تتكون من خمسين صفحة هي أيضاً مشبعة بالجمل التأويلية، ولكن بنسبة أقل بكثير وجود الخرائط التوضيحية التي نشرت في مصادر أخرى يقلل من حجم اللبس المحتمل. ويؤخذ على وثيقة جنيف دورانها حول موضوع حق العودة، فبينما تتنازل عنه في الناحية العملية بإعطاء إسرائيل الحق في قبول أو رفض أي لاجئ مع قبولها لنسبة تقارب الدول الأخرى التي ستوطن اللاجئين الفلسطينيين، إلا أنها تعطي الكثير من التأويل في الناحية المعنوية فتشير إلى قرار الجمعية العمومية 194 والمبادرة العربية، مع التأكيد على منع أي طرف من إثارة أي مطلب لا يتعلق بناحية التطبيق بعد عملية التوقيع. أنا لا أحاول حتى أن أدعي أن المفاوض الفلسطيني لم يرتكب أي خطأ في معركته مع المفاوض الإسرائيلي مثل عدم الاستفادة من الرئيس الأمريكي كلنتون ـ الذي كان جاداً في نيته في السلام ـ بالشكل الكافي و إفساح المجال للإسرائيليين، وارتكب أخطاء أكبر حينما ترك للإسرائيليين وقتاً طويلاً لتحكم رواية «رفض عرفات لعرض باراك السخي» الإعلام الغربي، عدا عن أخطاء أخرى، إلا أن اختراع أخطاء وهمية لن يساعد لا الفلسطينيين ولا الإسرائيليين.