هل ينتشل نقل السلطة أمريكا من المستنقع العراقي؟

TT

أبلغ السيد بريمر، بعد عودته من واشنطن اثر سفره المفاجىء، مجلس الحكم الانتقالي في العراق، بتاريخ 15 نوفمبر،( تشرين الثاني) 2003، بفرمان البيت الابيض، الذي ينص على نقل السلطة الى العراقيين بحلول منتصف العام القادم و اجراء انتخابات لجمعية تأسيسية بحلول نهاية 2005، وبموجب هذا الفرمان فإن مجلس الحكم وقوات الاحتلال سينجزان بحلول نهاية مارس، (أذار) ،اتفاقات أمنية لتحديد وضع قوات الاحتلال في العراق. نشكركم، دام فضلكم، على هذا الكرم الامريكي غير المسبوق. تلى السيد جلال الطالباني، رئيس المجلس لشهر نوفمبر الجزء المعلن من الفرمان بحماسه المعهود، وقرأ المستر أحمد الجلبي النص الانكليزي بتعلثم كمن يقرأ اللغة الانكليزية لأول مرة. مما يدل على أن الامر قد طبخ بعجالة وبغفلة من أعضاء المجلس. عندما أعاد السادة أعضاء المجلس قراءة الفرمان بروية وتأن وجدوه أنه ليس فرمانا لنقل السلطة وانما فرمان بأحالتهم على المعاش، بدأت التصريحات والتحفظات تترى من مختلف الفعاليات السياسية العراقية. وجاءت القشة التي كادت أن تقصم ظهر البعير من سماحة أية الله علي السيستاني الذي أكد على أنه لا شيء أقل من الانتخابات يمكن ان يمنح الحكومة العراقية المقبلة الشرعية التي تجيز لها البقاء في السلطة. ثم دبت خلافات قوية بين أعضاء المجلس ولم تحسم، كما لم يتم حسم تعيين أو انتخاب أعضاء لجنة صياغة الدستور. وهكذا أصبح واضحا ان خطط الادارة الامريكية للقيام بنقل سريع للسلطة في العراق تواجه عقبات جمة لم تكن منظورة من قبل، فبدلا من أن تكون الخطة (استراتيجية المخرج) وضعت أمريكا نفسها في صندوق، كما قال أحد كبار المسؤولين الامريكيين. يبدو أن أمريكا مولعة في عهد الرئيس بوش بارتكاب الاخطاء الاستراتيجية، وأن تورطها وتفاقم مأزقها في العراق أفقداها القدرة على التقييم الصحيح للاوضاع السائدة فيه. يقول السيناتور الجمهوري تشاك هيغل، وهومحارب قديم في فيتنام، «ان الادارة لاتعترف بأخطائها، وانها توجه السياسة الامريكية نحو الازمة، اننا أسأنا التقدير، وأسأنا التخطيط وأسأنا الفهم لمرحلة عراق ما بعد صدام، ذلك أننا كنا غير مستعدين لذلك بشكل فاجع ومثير للشفقة، لدينا مشكلة في واقعية التصور، ولدينا مشكلة في الحكم، والاهم أن الوقت ليس في صالحنا». ويقول توماس هانكين، مدير الدراسات الاستراتيجية في جامعة جون هوبكنز، «ان لغة الهيئة السياسية التي ترد من واشنطن هذه الايام تظهرنا بأننا سنهرب». وحسب مانقلت صحيفة «الواشنطن بوست» عن السيناتور الديمقراطي جوزيف بيدين، عضو لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس، قوله: «ان سياسة الاسراع بعرقنة السلطة في العراق انما هو نسخة من القطع والجري في فيتنام، أي أنها احدى الطرق للهروب. اننا ببساطة ننسحب، كما ان تسليم الامن للقوات العراقية، واسدال الستار على القوات الامريكية، انما هو وصفة قريبة الشبه بالكارثة». بعد كل هذه التصريحات والتلميحات والمقارنات هل أن نقل السلطة، التي لا تملكها أمريكا أصلا الى العراقيين سينقذها من ورطتها التي تتفاقم يوما بعد يوم؟ ومن هم العراقيون الذين ستنقل اليهم هذه السلطة؟

من بديهيات علم السياسة، ان المعلومات الخاطئة والمضللة تؤدي الى اتخاذ قرارات خاطئة. قررت الولايات المتحدة الامريكية غزو واحتلال العراق واسقاط نظامه الدكتاتوري، وهي تعلم علم اليقين بانها تسوق ادعاءات مضللة وخادعة وكاذبة وملفقة، استقتها من جهات وأشخاص وأطراف ذات أهداف سياسية مصلحية مسبقة.

وحصل ما حصل بعد 9 أبريل، (نيسان) 2003، في حرب عدوانية خاطفة تعد من أكثر حروب التاريخ اثارة للجدل. وبعد انقشاع غبار الحرب، وتناثر اشلاء الشهداء العراقيين المدنيين العزل والعسكريين الذين زجوا في عملية انتحار مأساوية، وبعد أن هدأت النفوس واختفى صدام حسين ونظامه في ليلة ليلاء، سقطت جميع الذرائع التي استند اليها قرار الغزو، وتبين للعالم أجمع حجم التضليل والافتراء والتلفيق التي مارستها أمريكا وحليفتها بريطانيا لخداع الرأي العام الامريكي والبريطاني والعالمي.

لا نريد في هذه العجالة مناقشة أو دحض المزاعم التي استند اليها القرار الامريكي ـ البريطاني لغزو العراق، لأن الشرفاء من السياسين والكتاب ووسائل الاعلام المنصفة في العالم، فضحتها وعرًتها ودحضت الاكاذيب والمبررات الواهية التي لم تصمد أمام الحقيقة ساعات قليلة، ففي الولايات المتحدة وبريطانيا نفسها، لم تتردد الشخصيات السياسية والاعلامية في نعت الادارة الامريكية والحكومة البريطانية بالكذب وخداع الرأي العام وتضليلها، ولايهمنا بعد ذلك، نعيق من نعق أو تغريد من غرد من مثقفينا العرب الذين يشربون حليب السباع من ثدي أمريكا وبريطانيا. السؤال المحير هو كيف اقتنعت الادارة الامريكية والحكومة البريطانية بصحة المعلومات المضللة التي قدمتها لها الجهات والشخصيات العراقية وغير العراقية، استخباراتية أو أعلامية؟ على اية حال نفذت أمريكا ما ارادت وشنت حربا عدوانية غير مبررة وغير أخلاقية وغير شرعية ومخالفة للقانون الدولي، واحتلت بلدا من أعرق بلدان الارض، فوقعت في المستنقع العراقي، ويا له من مستنقع! ولكي تخفف أمريكا من هول الكارثة التي تواجه قواتها وقوات الاحتلال من الدول الاخرى، تحاول الان تدجين واحد من أعرق شعوب الارض وأكثرها أعتزازا بنفسه، و تجنيد خمسة وعشرين مليون عراقي ليكونوا مخبرين وعملاء لديها. الغريب في الامر، هو اصرار أمريكا على التمسك بالذين ورطوها وأوقعوها في هذا المستنقع، فاذا كانوا من أصدقائها، ففعلهم هذا ليس من شيم الاصدقاء، وانما من شيم الانتهازيين، أما اذا كانوا اعداء لها، فيجب عليها أن تتخلص منهم.

المستنقع العراقي بدأ يبتلع الامريكان وحلفاءهم معا. القوات الامريكية في العراق مرعوبة مذهولة، تطلق النار حتى على ظلها. المسؤولون الامريكان في حيرة من أمرهم وتتناقض تصريحاتهم على مدار الساعة. السيد بول وولفويتز يزور العراق ويعود الى واشنطن مخروعا وفاقدا من وزنه خمسة كيلوغرامات. السيد بول بريمر يقفز الى واشنطن كل يومين أو ثلاثة، ولسان حاله يقول أنقذوني من هذه الورطة. نصف أعضاء مجلس الحكم الانتقالي في (سياحة سياسية) مستمرة في خارج العراق خوفا من التصفية والنصف الاخر مشغول في البزنس في الاقبية المحصنة والحراس الشخصيين من النيبال!

الدستور أصبح في خبر كان، وربما سيقبل العراقيون في نهاية الامر بدستور مؤقت مهلهل وأمرهم لله الواحد القهار! ثلاثون جنديا امريكيا يذهبون الى بلادهم في اجازة ولا يعودون (يفرون من الخدمة). سائق دبابة أمريكية من شدة هلعه يوم قصف فندق الرشيد يسحق ويثرم سيارة بمن فيها (الاب والام وطفلين).

الحاكم المدني الامريكي يحل الجيش العراقي ثم يتراجع وينوي اعادة النظيفين منهم الى الجيش الجديد. يطاردون رجال الامن والمخابرات السابقين ثم يتوسلون اليهم بالعودة للعمل لمساعدتهم في استتباب الامن. يلقنون رجال الشرطة العراقية دروسا في الديموقراطية ثم يطلبون منهم القاء القبض على الصحفيين!! يأمرون برفع صور الرئيس السابق من الكتب المدرسية ثم يأمرون الطلاب بلصق العلم الامريكي على حقائبهم الدراسية!! طائرات الشينوك والاباتشي وبلاك هوك تتساقط كالفراشات! المحللون السياسيون يقولون ان العراق ليس بفيتنام والآخرون يقولون بل انه أخطر من فيتنام، والانباء من بغداد تقول ان رائحة فيتنام تزكم الانوف في العراق، شعبية الرئيس بوش تتدنى باستمرار وسنة الانتخابات على الابواب. التكاليف تتصاعد بارقام فلكية. عدد القتلى الامريكان وحدهم منذ بداية العدوان جاوز 440 قتيلا (هذا هو المعلن والمخفي أعظم) بالاضافة الى قتلى البريطانيين والبولنديين والاسبان والايطاليين واليابانيين والكوريين الجنوبيين وعشرات من المدنيين الاجانب الذين يرافقون قوات الاحتلال وهلم جرا، والجرحى فاق عددهم الآلاف. عدد شهداء العراق من المدنيين جاوز (25) ألفا وعدد المصابين بالجروح أكثر من (40) الفا أغلبهم من النساء والشيوخ والاطفال الابرياء الذين لا ناقة لهم في هذه الحرب ولا جمل، أما الشهداء من العسكريين العراقيين فالله وحده يعلم عددهم. جاوز عدد المعتقلين من ابناء الشعب العراقــي (30) الفا بعد أن طال النساء والشيوخ والاطفال. مداهمة البيوت الآمنة على قدم وساق صباح مساء. أمام هذه المأساة الانسانية لايتحرك السيد كوفي عنان ولا تهتز شعرة من شاربه أو لحيته، ولا تحتج منظمات حقوق الانسان وجمعيات الرفق بالحيوان وهيئات حماية الدولفين والببغاء. لأن الذين يعتقلون ويعذبون ويقتلون ليسوا بشرا بل هم من المسلمين والعرب. الطائرات والدبابات والمدفعية الثقيلة والصواريخ تقصف الاحياء السكنية في بغداد وصلاح الدين والموصل والفلوجة والرمادي وغيرها وكأن الحرب في بدايتها!! وأخيرا رئيس القوة الاعظم في العالم يذهب سرا تحت جنح الظلام والتعتيم الشامل الى بغداد ومن دون علم زوجته وأهله وأقرب مستشاريه والمقربين منه، ليشارك جنوده عيد الشكر وأكل الديك الرومي (الذي نسميه في العراق فسيفـس أو علي شيش)، ويقفل راجعا بنفس الطريقة التي دخل فيها ربوع بلاد الرافدين الذي تباهى بأنه حررها من الاستعمار التكريتي والامبريالية البعثية. هذا هو مشهد المأساة في العراق هذه الايام وباختصار شديد، جنت على نفسها براقش وهكذا تورطت أمريكا أو ورطوها؟ فمن يرمي لها حبل النجاة قبل أن تغرق في هذا المستنقع الذي لا قرار له؟ وهل نقل السلطة الى العراقيين الذين ستختارهم أمريكا، أو ينتخبونهم بانتخابات صورية مزيفة سيحل المشكلة أم يعقدها؟

قبل ان ندخل في التفاصيل، نقول: نعم، نتفق مع الرأي القائل، ان العراق ليس فيتناما، وأن مستنقعه ليس بمستنقعها، والسبب هو اختلاف الزمان والمكان والظروف الدولية، العراق لا يمكن الا أن يكون عراقا لأنه نسيج وحده وشعبه الذي عجن بالغيرة الوطنية لا يمكنه الا أن يكون بمستوى البطولة، لهذا يمكن أن يكون العراق أسوأ من فيتنام، اذا لم تتدارك امريكا الوضع وتعيد حساباتها وأستراتيجيتها جملة وتفصيلا. يقول ايرنست ماي، استاذ التاريخ في جامعة هارفرد، «ان العراق يذكر بالايام الاولى لحرب فيتنام بشكل مخيف». أما الخبير العسكري في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، انتوني كوردسمان كتب يقول «انه ما لم يتغير هذا الوضع بسرعة وبصورة جذرية، فان الولايات المتحدة قد ينتهي بها الامر وهي تواجه خوض حرب خليج ثالثة في العراق.. وانه ليس من الواضح اذا ما كان في مقدور الولايات المتحدة الانتصار في هذا النوع من الحروب غير المتكافئة». هذه هي الاسباب، من بين أسباب أخرى، التي دفعت أمريكا الى اتخاذ قرار نقل السلطة للعراقيين وليس كما يدعي بعض مثقفينا العرب بأن أمريكا أذعنت لمطالب معظم أعضاء مجلس الحكم بتسريع عملية نقل السلطة الى الشعب العراقي ووضع جدول زمني لانهاء الاحتلال واستعادة الاستقلال والسيادة. المسؤولون الامريكان لا يستطيعون تغيير الوضع بصورة جذرية وبسرعة ما لم يستوعبوا، اولا وقبل كل شيء، المكونات الاساسية للشعب العراقي ويدرسوا الاسباب الحقيقية التي دفعت الشعب العراقي الى الانفجار بوجه قوات الاحتلال، على الرغم من انه شعب صبور صبر أيوب ويتحمل آلام القديسين، ألم يصبر على ظلم واستبداد صدام حسين (35) عاما؟ الذين يقللون من شأن الشعب العراقي ويهينونه سيصيبهم الدوار وفقدان التوازن وربما الذاكرة أيضا.

هذه الحقائق غير خافية على المسؤولين الامريكان ولكننا نعود ونقول ان امريكا تستطيع ان تفعل الكثير، ان كانت حسنة النية لتنتشل نفسها قبل أن تتفاقم الكارثة ويتسع المستنقع، فمن دون اللجوء الى اللف والدوران، لأن الظلم بًين والحق بًين. ان الاصرار على انجاز المهمة المبهمة لا يجدي نفعا، وتشويه الحقائق أو طمسها لا يخدم امريكا، واستخدام سياسة النعامة سيورط امريكا أكثر، والتضليل الاعلامي سيزيد من مأزقها والاصرار على التحدي يغرقها في المستنقع أكثر فأكثر. حري بنا أن نقر بأن هيبة أمريكا في المحك، فلا يمكن للقوة العظمى الاولى في العالم ان تفقد هيبتها بسبب العراق ومن أجل العراق!! هل سيقفل الرئيس جورج بوش على سياسته غير الحكيمة في العراق ولا يبحث عن مخرج لمأزقه ويخسر الفترة الثانية من ولايته ويعيد مأساة أبيه؟. أمريكا ورئيسها في وضع حرج لا يحسدان عليه.

وقبل أن تنزلق أمريكا الى قاع المستنقع أكثر فأكثر، ينبغي، أن تضع في حساباتها الحقائق الاتية:

ـ ان أية قوة عسكرية، سواء كانت من دول الجوار أو من الدول العربية أو الاسلامية أو من امريكا اللاتنية أو من أوربا أو أية قوة تحت علم الامم المتحدة في هذه المرحلة، تعتبر قوة احتلال، في نظر الشعب العراقي ووفق القانون الدولي، مهما كانت صفاتها ومسمياتها وأغطيتها، ومهما كانت نياتها حسنة أو سيئة.

ـ توريط الامم المتحدة، بكل مالها وما عليها من ملاحظات، بجعلها جزءا من الاحتلال وتحت وصف حفظ السلام، ستدمر البقية الباقية من مصداقية هذه المنظمة.

ـ تعيين مجلس جديد للحكم وتحت أية مسميات أو تعيين شخصية سياسية كرئيس مؤقت للدولة، من قبل الامريكان، سيزيد الوضع تعقيدا ولا يساهم في الحل، لأن الشعب العراقي يعتبرهم غير شرعيين ولا يكون حالهم أفضل من حال مجلس الحكم الانتقالي الذي أثبت فشله بجدارة يحسد عليها.

- ينبغي على أمريكا أن تستمع الى نصائح فرنسا والمانيا وروسيا ووجهة نظرها في الشأن العراقي، لأن تحليلاتها سواء قبل الحرب أو بعدها، كانت صائبة، انطلقت من نظرة استراتيجية تستند الى معرفة عميقة بالمنطقة وتكويناتها وصراعاتها، ان في صفحات التاريخ دروسا يجب على أمريكا اعادة قراءتها واستيعاب مضامينها.

والكلمة الاخيرة التي نود ان نقولها بصراحة للسيد الرئيس جورج بوش هي: لا أحد يستطيع مساعدة أمريكا وانقاذها من المستنقع العراقي سوى أمريكا نفسها. وأنتم ايها السيد الرئيس، رئيس يتمتع بقدرة اتخاذ القرارات الاستراتيجية. اتخذ قرارك الشجاع بسحب قواتك من العراق وانهاء احتلاله، عندها سيكتب لك التاريخ هذا القرار بكلمات من ذهب، ولا تصدق ما يقوله لك أصدقاؤك وأعداؤك من العرب والمسلمين وغيرهم، فانهم جميعا عندما يشاهدون تفاقم مأزقك ومأزق قواتك في العراق، يقولون في سرهم وهم يبتسمون «أمريكا تستاهل ما حل بها........ حيل بيها».

* دبلوماسي عراقي سابق