قرون العدالة الفرنسية

TT

قمة التحضر والاخلاص للحقيقة ان تفضح جدتك في قبرها لتطالب بتبرئة راقصة تم اعدامها ظلما حسب ما أفضت اليه ابحاثك وتنقيباتك في أوراق العائلة فهذا بالضبط ما يفعله حفيد (بيير بوشاردون) المدعي العام الفرنسي الذي تسبب باعدام أشهر جاسوسات القرن الماضي (ماتا هاري) التي يطالعنا كل خريف اكثر من كتاب عنها وكلها مقتنعة ببراءتها وتطالب برد الاعتبار اليها.

والجديد الذي يقدمه حفيد الرجل الذي استصدرالحكم في كتابه وفيلمه انه يتهم جده بعدم الحياد ا تجاه النساء وخصوصا صاحبات المغامرات العاطفية منهن فقد اكتشف الحفيد ان جدته المحترمة كان لها عشيق اثناء زواجها وان جده المدعي العام كان يعرف بذلك وبالتالي فان مواقفه من النساء المتحررات جنسيا لم تكن فوق الشبهات وان كانت فهي لا تصلح لتحكيمه في رقاب نساء من طينة (ماتا هاري) التي كانت اول من يتعرى من اوراق التوت في باريس التي جاءت اليها هاربة من قدرها عام 1904 وبها لاقت مصيرها اعداما بالرصاص عام 1917 بتهمة التجسس لصالح الالمان.

وهذه الجاسوسة العجيبة تقطر التراجيديا من كل فصل من فصول حياتها ولو كانت مولودة ايام الاغريق لأعطوها ألوهة المأسويات دون منافسة وبالتزكية فقد طلقت امها وهي طفلة ثم افلس ابوها فتزوجت من ضابط كان يسكر ويضربها وتوفي ولدها الاول منه مسموما اما ابنتها فقد سرقها الاب الفظ بعد ان حاولت الهرب بها وعند هذا الحد اقفلت صفحة سوداء وفتحت واحدة جديدة اكثر سوادا انتهت بإعدامها.

وفي باريس ومع انها هولندية واسمها الحقيقي (مارجريت جيرترودزيلي) ادعت انها نصف بريطانية ونصف هندية ولبست بدلة الرقص وبدأت الهز وفي أقل من عام دوخت نصف رجال باريس وأغاظت نصفهم الثاني ومعظمهم من رجال الاستخبارات الذين استغلوا جمالها واثارتها وحاجتها للمال وأدخلوها في دهاليز معتمة لم تعرف كيف تخرج منها.

ان قناعة فيليب حفيد المدعي العام الفرنسي لا تختلف كثيرا عن قناعة (ليون شيرمان) الذي وضع ايضا كتابا عنها والاثنان يعتقدان ان المخابرات الفرنسية التي خرجت مدموغة بالفشل الذريع في نهاية الحرب العالمية الاولى ارادت البحث عن كبش فداء ووجدته في تلك الراقصة الساذجة التي خدمتهم ايضا وأعطتهم من المعلومات التي كانت تتدحرج بغزارة على ارض مخدعها اكثر مما اعطت للالمان لكن الجد (ذو القرنين) كتم عن المحلفين هذه المعلومات ليسهل استصدار حكم باعدامها.

لقد كانت (ماتا هاري) هشة ويائسة ولا تعرف التعامل مع هذه العوالم المعقدة فقد ارسلت تقارير خطيرة بالبريد العادي وكانت تطلب من مدير مكافحة التجسس نقودا على الهاتف وترسل له فواتير الفساتين والاحذية وحين اعتقلوها وأرادوا ارسالها الى السجن ظنت ان القرار بيدها وقالت انها ترفض الذهاب ان لم يكن في زنزانتها حمام وهاتف خصوصيان وكلها تصرفات تشيرالى كائن هش وساذج وسط غابة تماسيح من الاستخبارات البريطانية والفرنسية والألمانية.

ولن يطول الوقت لرد الاعتبار للجاسوسة الحسناء والاعتذار الفرنسي عن اعدامها ظلما فالجمعية التي تحمل اسمها في بلدها الاصلي هولندا قدمت لوزارة العدل الفرنسية ملفا قانونيا متقنا وضعت فيه معظم الأدلة التي اهتدى اليها الباحثون عن الحقيقة ومنهم حفيد ذو القرنين الذي سيكون لشهادته وزنها الكبير لاستنادها الى الاوراق الخاصة للمدعي العام الذي خانته زوجته فقرر الانتقام ـ كما يبدو ـ من النساء كلهن تعويضا عن تلك القرون الاضافية التي ركبتها له حرمه المصون لاسباب نخمنها لكن على وجه التدقيق لا نعرفها فالخيانات الزوجية كالتجسس عوالم مذعورة ومحاطة دوما بالغموض والسرية.