في نفسه شيء من قد

TT

قامت في الماضي خصومة بين الشاعر شوقي ابي شقرا وبيني بسبب حرف «قد». فقد كان الشاعر محرراً للصفحة الثقافية في «النهار»، وقد كان على ما يبدو على عداء شديد مع «قد» فألغاها وفرض الالغاء على كل نص يمرَّ تحت يده. وصارت نصوص الكتابة عن الرسم والفكر والانشطة السياسية موحدة مثل تقارير الكوميسار في زمن «الغولاغ» السوفياتي. واعترضت، مبدياً اعجابي بـ«قد» وقدراتها وسحرها في ضبط الكلام. كما كنت اعترض في اجتماعات «مجلس التحرير» اليومية على الطغيان اللغوي الآخر، كفرض كلمة «رئيس» بدل «رئيسي»، بحيث عليك ان تقول «الموضوع الرئيس» و«القضية الرئيسة» حتى في خبر عن مسابقة الهررة، اذ يجب ان تقول «الهرة الرئيسة». او «الهر الرئيس».

لكن دعونا نبقى في «قد». فقد روى لي الزميل يوسف الجاسم انه بدأ تقديم برنامجه الشهير «6 على 6» عام 1975. وبعد ربع قرن اعتبر انه يحق له، في قرارة نفسه، القول انه صار ذا خبرة في هذا الحقل. لكنه فوجىء ذات يوم بوصول رجل جديد الى عالم التلفزيون. ولسبب او لآخر قرر ان يعطي درسه الاول لأبي خالد. فلما فرغ يوسف من تسجيل برنامجه اتصل به العالم اللغوي وقال له، بكل تواضع، «اسمع يا يوسف. احب ان اعطيك الدرس الاول «كذا» في التلفزيون: اياك ان تبدأ الجملة «بقد»، لأن هذا خطأ غير جائز».

وسأله يوسف في صدق ومحبة، مما تشكو «قد» المسكينة لكي تمنع من مكانة الابتداء، فقال الاستاذ، «لا ادري. وليس عليك ان تسألني. انا عليَّ ان اعطيك الدرس الاول». وارتاح الاستاذ على كرسيه مبتهجاً بدوره في تنشئة الناس ونشر العلم وتصحيح اخطاء اللغة. وسأله يوسف، هل الى جانبك «فاكس»؟ فقال طبعاً. انه مجهز بكافة ادوات الفكر اللغوي العالي.

وبعد دقائق ارسل يوسف الى الاستاذ الخارق الرسالة التالية، «عزيزي... عطفاً على محادثتكم الكريمة وادبكم الجم واعتراضكم على استخدام «قد» في بداية القول، نبلغكم بأننا غير قادرين على الأخذ بعلومكم في اللغة والبيان، لأننا، بكل بساطة، نأخذ بقوله تعالى.

«والى سيادتكم بعضاً من آيات الله البادئة بحرف قد: «قد افلح من تزكى» (سورة الاعلى) «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاوركما ان الله سميع بصير (سورة المجادلة) «لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر». «قد افلح من زكاها وقد خاب من دساها» (سورة الشمس).

«ثمة آيات اخرى نرجو ان تتفضلوا بالاطلاع عليها في كتابه العزيز. وقبل ان اختم احب ان اقرأ على مسامعكم الكريمة بيتاً من الشعر احفظه مذ كنت يافعاً لأمير الشعراء احمد شوقي وليس لأحد سواه:

قد كان عندي بلبل في قفص من ذهب

جميل شكل ريشه حلو طويل الذنب

وبعد، اقبل خالص التحيات،

وفي انتظار درسكم الثاني».

اخوكم يوسف الجاسم