العالم الإسلامي.. اليقظة الصعبة..!

TT

العالم الاسلامي يعيش مشكلة الآن مع نفسه ومع الآخرين. انه يصرخ، ينادي، يستغيث. بدون ادنى شك لقد دخلنا في تلك الازمة التي وصفها المفكر الفرنسي بول هازار في كتابه الشهير «أزمة الوعي الاوروبي»، ولا اعرف متى سنخرج منها ولا كيف. وهل سنخرج سالمين ام لا..

ومعلوم ان المسيحيين في اوروبا ابتدأوا يشهدون عوارض او مظاهر تلك الازمة منذ اواخر القرن السابع عشر، ثم ازدادت حدتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حتى حُلت في اوائل القرن العشرين. كان السؤال المطروح عليهم هو التالي: هل يمكنهم ان يتقدموا بدون ان يتغيروا او يخسروا عقيدتهم التي هي روحهم او اغلى عليهم من روحهم: اقصد عقيدتهم المسيحية؟ فالكتاب المقدس، اي التوراة والاناجيل، يقول شيئا عن جغرافية الارض وبداية الكون، والعلوم الحديثة التي كانت في طور الانبثاق تقول شيئا آخر. فمن يصدقون؟ هل يصدقون حكاية سفر التكوين الواردة في التوراة أم نظريتي غاليليو ونيوتن؟ معضلة محيرة وتناقض قاتل لا مخرج منه، او هكذا ظنوا في البداية، ثم شيئا فشيئا، وبعد عذاب داخلي رهيب، راحوا يبلورون تأويلا «مجازيا» لنصوصهم العقائدية لكيلا تصطدم بشكل مباشر وصاعق بنظريات العلم التي تؤكدها التجربة والبراهين المحسوسة. اما التأويل الحرفي فكان يصطدم بها ويسبب لهم كل هذه العذابات والتناقضات.

وهكذا حُلَّ التناقض الذي اعتقدوا لفترة طويلة بأنه يستعصي على كل حلٍّ او علاج. والازمة عندما تنفرج او تنحل تتحول الى نعمة لأنها تفتح امامك الآفاق مشرعة واسعة. اما اذا لم تجد لها مخرجا فإنها تتفاقم وتنفجر فيك وتدمرك تدميرا. على هذا النحو يمكن ان نفهم سبب تفوق الحضارة الاوروبية على كل ما عداها منذ القرن السادس عشر، او على الاقل الثامن عشر. فقد وجدت ازمتهم لها مخرجا.. وبعد الازمة تصبح اقوى بألف مرة مما كنت عليه قبلها. وكما يقول المثل: المشكلة التي لا تقتلني تقويني.

والآن نلاحظ ان الوعي الاسلامي دخل في ازمته الرهيبة التي تبدو وكأن لا مخرج منها. انه يتخبط، ينفجر بالعنف الداخلي والخارجي، وتصيب شظاياه الذات والآخرين. وكل ذلك لأن المثقفين العرب او المسلمين، لم يستطيعوا حتى الآن ان يجدوا التشخيص المناسب لهذا الوضع. وهنا يكمن الفرق بين وضع الاوروبيين ووضعنا نحن. فعندما ننظر الى ما حولنا لا نجد شخصيات فكرية من نوعية سبينوزا، او مالبرانش، او ديدرو، او فولتير، او روسو، هذا ناهيك من كانط وهيغل.. هل يعني ذلك ان الامة العربية او الاسلامية اصيبت بالعقم فلم تعد تنتج العباقرة؟ ام يعني ان هناك تفوقا ازليا للعرق الاوروبي على العرق العربي؟ لا هذا ولا ذاك.

فأولا العباقرة الكبار لا يمكن ان يظهروا في كل جيل او جيلين، وانما كل قرن او قرنين وربما اكثر. وثانيا فإن الساحة العربية والاسلامية لا تخلو من مفكرين افذاذ، ولكن حجم المشكلة اكبر منهم. فهناك مشاكل ضخمة لا تحل بين عشية وضحاها. وانما تلزمها عدة اجيال لكي تستطيع التغلب عليها، ومن بينها مشكلة الوعي الاسلامي مع الحداثة العلمية والفلسفية، فهو من جهة يتوهم انه سيخون تراثه وقدس اقداسه اذا ما انفتح على هذه الحداثة، وهو من جهة ثانية لا يستطيع الا ان ينفتح! ومن العبث ان نتخيل ان هذه المشكلة المزمنة سوف تحل خلال عشر سنوات او عشرين سنة. ينبغي ان نعطيها الوقت الكافي لكي تتوضح معالمها وتنضج.

وتحضرني بهذه المناسبة كلمة لكانط. فعندما سألوه في النصف الثاني من القرن الثامن عشر: هل نحن في عصر التنوير حقا؟ اجابهم: لا، ولكننا سائرون نحو التنوير. البشرية الاوروبية لم تستيقظ بعد تماما من غفوة العصور الوسطى وتكاسلها المريح، والتطاول، ولكنها سوف تستنير حتما بعد حين. وعندما قال كانط هذا الكلام كانت اوروبا قد شهدت ظهور تلك الشخصيات العظمى في تاريخ الفكر، والتي كنت قد ذكرت بعضها آنفا. وكانت قد شهدت ظهور العلم الحديث على يد ديكارت وغاليليو وكيبلر ونيوتن. وكانت قد شهدت ايضا ظهور النقد التاريخي واللغوي او الفيلولوجي للنصوص المسيحية المقدسة على يد الفرنسي ريشار سيمون، والفيلسوف الهولندي سبينوزا، وكانت قد شهدت تلك الكتب الرائعة والمعارك الفكرية الحاسمة لفولتير، وديدرو، وجان جاك روسو..

ولكن انوار هذه الشمس الفكرية لم تكن قد وصلت بعد الى الارياف البعيدة، والجبال الوعرة، ولم تكن قد نزلت الى الاعماق التحتية للشعب في المدن، فالشعب كان لا يزال يغط في نوم عميق، وتخدره اقوال الخوارنة والكهنة وعموم رجال الدين. وهناك متعة للتعصب ايها السادة، نعم، هناك متعة لا تضاهى للتعصب والنوم اللذيذ في احضان الجهل. والاستيقاظ صعب ومزعج وليتنا نظل نائمين أبد الدهر..

هنا، في هذه النقطة بالذات، لا نزال نحن موجودون الآن. نحن لم نستيقظ بعد على الرغم من كل الضربات التي تنزل على رؤوسنا منذ فترة. وحتى ضربة 11 سبتمبر وكل ما تلاها لم تستطع ان توقظنا من نومة اهل الكهف هذه..

ولذلك اسباب. فأنت لا تستطيع ان تستيقظ من نومة استمرت ألف سنة تقريبا! ويبدو اننا بحاجة الى زلازل وبراكين اضافية لكي نبتدئ بالتململ والتململ الذي قد يؤدي الى استيقاظنا اخيرا! .. نحن بحاجة الى كل ذلك لكي نبتدئ بطرح اول سؤال على تراثنا، وعقائدنا، وهويتنا، التاريخية العميقة. قد اكون ابالغ بعض الشيء، فهناك مفكرون طرحوا اكثر من السؤال الاول، بعضهم في اللغات الاجنبية كمحمد اركون، وبعضهم في اللغة العربية ذاتها كنصر حامد ابو زيد الذي صودر كتابه «الخطاب والتأويل» مؤخرا من قبل احدى محاكم التفتيش والتحقيق.

ولكن هذا دليل صحة وعافية وليس دليلا على المرض. انه علامة على ان هذه الامة لم تمت بعد. بل انها توشك على الاستيقاظ، بل ان مظاهر الحياة ابتدأت تدب في عروقها وشرايينها، فكل شيء يبتدئ من هذه المواجهة للذات العربية ـ الاسلامية مع ذاتها: اقصد الذات التراثية الأبوية التي تعاقب الذات الحديثة الوليدة وتقمعها وتخشى انطلاقها وحريتها. كل شيء يبتدئ من هنا: من هذا الصدام المباشر والمكشوف بين ماض لا يريد ان يموت وحاضر لا يستطيع ان يولد لأن هذا الماضي يملأ الساحة ويسد الافق.

هناك مصداقية للماضي لأنه يؤمن الطمأنينة للناس بحكم الالفة والعادة والزمن المتطاول. والجديد دائما مزعج ومنفر في البداية. ولكن سيأتي وقت يصبح فيه الجديد مطلوبا ومرغوبا حتى في امور الدين والعقيدة. وعندئذ سوف يبتدئ التحرير الحقيقي للشخصية العربية ـ الاسلامية. هناك تأويل آخر ممكن لهذا التراث العظيم الممتد على مدار اربعة عشر قرنا. وعندما يتاح له ان ينتشر في شتى انحاء العالم الاسلامي ويدخل حتى الى المدارس القرآنية وكليات الشريعة، فإن الأمل سوف يصبح ممكنا ايضا. وعندئذ سوف يفقد التأويل المتزمت للدين مصداقيته، هذا التأويل الذي ادخلنا في صدام رهيب مع العالم الحديث والامم المتحضرة شرقا وغربا. عندئذ سوف تولد الذات العربية الاسلامية من تحت انقاضها وركامها التاريخي، وسوف تصعد رويدا رويدا حتى تنتصر على ذاتها. بعدئذ يصبح كل شيء ممكنا: العلم، والسياسة، والتقدم، والحضارة.

نعم ان الحضارة العربية الاسلامية آتية بثوب جديد وبشكل لم يخطر على البال من قبل. ولكنها لن تجيء الا بعد تفكيك الانغلاقات المزمنة والبيت العتيق! وعلى انقاضه سوف ينهض بيت جديد مفتوح على الهواء والشمس والحرية. هذا البيت سوف يتسع لنا جميعا لأنه بيتنا لا بيت الطوائف والمذاهب المنغلقة على ذاتها منذ قرون وقرون. فمن يريد ان يعيش في هذا البيت الضيق بعد الآن؟ من يريد ان يسكنه؟