خلافا لمسلمين.. مسيحيون ينصرون قيماً إسلامية..!

TT

هل المسلمون ـ وحدهم ـ هم الذين يفعلون «الخير» ويمارسون «النبل»،أي يحتكرون الأخلاق والفضائل؟

في عالمنا هذا.. هناك من الوقائع والقرائن والمواقف ما ينشئ سؤالاً كبيراً: جد كبير وهو: هل كل من حمل (اسما) إسلامياً هو أقرب إلى قيم الإسلام بمجرد التسمية؟ وهل غير المسلمين ـ جميعاً ـ هم ابعد عن القيم التي دعا إليها الإسلام بحكم هذه الغيْرّية؟

السؤال صاعق: يهز أو يزلزل (مسلّمة): فكرية وثقافية وأخلاقية تكاد تكون ثابتاً من الثوابت الراسخة في نظر الكثيرين.. نعم هو سؤال يجبه العقل والنفس. ولكنه سؤال حق، وعقلاني، وواقعي، يتعين: أن يُبيّن ولا يكتم، ويعلن ولا يكون سراً.. أولاً لأن(العدل) يوجب: الصدع به.. ثانياً: لأن المؤمن لا يدس نفسه، بل يزكيها بألق الحقيقة.. ثالثاً: لئلا يفتن الناس بمقولة: أن قيم التسامح والإنصاف محجوزة للمسلمين، محصورة فيهم دون العالمين.. يفتنون بهذه المقولة أو الدعوى حين يلمسون ويشاهدون: أن شرائح من غير المسلمين فيها من النبل والأخلاق ما ليس في شرائح تحمل أسماء مسلمة.. أخلاق مثل: النزاهة العلمية، والتعامل التجاري الأمين، والإنصاف الأدبي.

مسألة (الزي الإسلامي) للمرأة المسلمة (المسمى بالحجاب) ليست هي قوام هذا المقال، على الرغم من أنها مسألة أو قصة عجيبة ومثيرة.. ففي كوكبنا هذا نحو ثلاثة مليارات انثى أو امرأة لا يرتدي الزي السابغ أو المحتشم منهن إلا 7 في المائة بحكم العادة كالفلاحات والريفيات، وبحكم الديانة كالراهبات والمسلمات.. معنى ذلك: أن أكثر من 90 في المائة من النساء في هذا العالم: متبرجات أو سافرات، ومنهن من هو أكثر من ذلك.. فهل لن يستقر الكوكب، ولن تستقيم شؤونه إلا بالمزيد منهن؟ هل الانتعاش الاقتصادي، والرقي الأخلاقي، والإبداع العلمي، والسلام العالمي الوطيد.. هل ذلك كله لا يتحقق إلا بعد أن ترتفع نسبة غير المحتشمات إلى 100 في المائة.. وما علاقة هذه المسألة بالتقدم؟ ما علاقة زي المرأة بالمثلث الهندسي، أو سرعة الضوء، أو الجينوم.. وعلام هذه الضجة الكبرى؟!

قلنا: إن هذه المسألة ليست هي قوام المقال، ولكنها تصلح شاهداً ودليلاً على أن في غير المسلمين: نبلاً وفضائل وأخلاقا (وهذا هو جوهر المقال).

في فرنسا: ضجة كبرى حول الزي الإسلامي للفتيات المسلمات في المدارس الفرنسية، ولا تزال الضجة تعلو حتى تحولت إلى مشروع قانون يمنع هؤلاء الفتيات من الزي الذي يردنه ويفضلنه.

هنالك تقدمت الكنائس المسيحية ـ بمختلف مذاهبها ـ معترضة على هذا القانون، ومطالبة بحق المسلمين أو المسلمات في(حرية التدين).. نعم. الكنيسة الكاثوليكية هي التي ابتدرت هذا الموقف النبيل بادئ ذي بدء. وقال رئيس مجلس أساقفة فرنسا(المونسنيور جان بيار): «إن إصدار قانون يحظر المظاهر الدينية في مؤسسات التعليم العام هو قانون يمثل تراجعاً للحرية الدينية» بيد أن الكنائس البروتستانتية والأرثوذكسية ظاهرت الكنيسة الكاثوليكية واتخذت الموقف الأخلاقي نفسه.. ولقد دعمت هذه الكنائس موقفها أو فلسفتها بحجة عقلانية اجتماعية وواقعية تمثلت في قولها: «إن الإجراءات التي ستتخذ قد تعتبر قمعية من جانب البعض وتعزز الطائفية بدلاً من أن تضع لها حدا».

ومن قبل أذنت الشرطة البريطانية لشرطيات مسلمات بتكييف زيهن بالطريقة التي يقتضيها حقهن أو حريتهن الدينية.. في حين أن مسلمات ـ في فرنسا ـ وقعن على عرائض تؤيد قانون حظر الزي الإسلامي في المدارس الفرنسية!! وفي حين أن حكومات إسلامية (!) تفصل من العمل كل من تستر شعرها!!

إن هذه مفارقات تثبت أن أخلاق التسامح والإنصاف غير محصورة في المسلمين وحدهم. بل لن نتردد في أن نقول: إن هناك مسيحيين أكثر تسامحا ـ تجاه قيم الإسلام ـ من مسلمين يحملون أسماء إسلامية.

ومن شاء المزيد من الدلائل على (أخلاق) غير المسلمين.. فهذا شيء من المزيد:

أـ في استطلاع علمي ـ موسع وموثق ـ للرأي العام الأوروبي، قال 59 في المائة من الأوروبيين: إن إسرائيل هي المهدد رقم (1) للسلام العالمي. ولقد استند الاوروبيون في حكمهم هذا الى ما تفعله إسرائيل بالفلسطينيين.. وفلسطين قضية عربية ـ اسلامية لا أوروبية، ومن هنا فان دافع الشعوب الأوروبية إلى هذا الموقف الشجاع الكريم العادل، إنما هو دافع إنساني أخلاقي، منبثق من ضمير حي مستقل، لا من جهود عربية إسلامية: مفردة أو مشتركة: استهدفت الشعوب الأوروبية واستمالتها فأقنعتها.

ب ـ ان (غير المسلمين) هم الذين بادروا بل كافحوا ـ فرادى ومجتمعين ـ في سبيل صياغة اتفاقات دولية تحظر استنساخ البشر: مدفوعين إلى ذلك بدوافع دينية وأخلاقية.

نخلص من هذا إلى حقائق ثلاث:

الحقيقة الأولى هي: ان البشر مهما اختلفت أديانهم ومذاهبهم وألوانهم وألسنتهم ومواقعهم الجغرافية ومستوياتهم الثقافية، فان (فضائل أو أخلاقا مشتركة) تجمعهم.. مثلاً: بيننا وبين الرئيس الأمريكي جورج بوش فروق كبيرة من أهمها: تصور العالم، وطريقة التعامل معه، ومع ذلك لا نتردد في تأييد موقفه الأخلاقي الصلب المناهض لـ«تقنين الشذوذ» أو الزواج المثلي، لأن موقفه هذا يستند إلى أخلاقيات وقيم دينية نحن نؤمن بها.

الحقيقة الثانية: ان الصراع أو الخلاف بين عموم المسلمين وعموم المسيحيين ليس (دينياً) بيد أن هذا النفي لا يشمل غلاة مسلمين يريدونها حرباً دينية على المسيحيين كافة، ولا يشمل حفنة في الإدارة الأمريكية قد بدت البغضاء الدينية من أفواههم، ويريدونها حرباً على المسلمين كافة.

الحقيقة الثالثة هي: ان عالمنا الإنساني هنا هو(عالم ملوّن) بعدة ألوان، لا بلون واحد فحسب.

ان هذا العالم ملون، بل شديد التلون: في أجزائه المفردة والمركبة، وفي خيوط نسيجه، وفي العلاقة بين هذه الخيوط.

انه إذا كان من المريح للذات: تصور العالم في صورة واحدة، ذات لون واحد، فان هذه الراحة لا تقوم إلا على أنقاض النظرة الموضوعية، إذ هي رغبة ساذجة أو طفولية في تصور العالم: ليس كما هو. بل كما يهواه المرء ويتمناه، وكأي من أناس، ومن أنظمة ، تصوروا العالم وفق أحلامهم وأوهامهم فصعقهم الواقع فهلكوا أو تراجعوا إلى نقطة بينها وبين ما يدور في العالم: أمد بعيد.. ثم أن هذه الراحة وهمية لا حقيقة، وهمية إلى درجة أنها تتضمن نقيضها. فتصور العالم في صورة واحدة، ذات لون واحد، يشقي صاحبه أو أصحابه بمتاعب ومشاق لا آخر لها في أثناء التعامل الواقعي مع العالم.. ومن هذه المشاق: الصدمة.. والاضطراب.. وعسر الاتصال.. وحرج التكلم بلغة لا يفهمها احد.. إلى آخر ما تجلبه هذه الراحة ـ ذات اللذة الوهمية ـ من مرارة وكرب وعنت.

ان تفسير الأحداث والوقائع والمواقف البشرية: لا يصح بسبب أو عامل واحد: لا يصح ـ منهجياً ـ لأنه تجاهل عوامل موضوعية أخرى: ليس من المنهج العلمي تجاهلها. ولا يصح ـ عملياً ـ لأن ما يبنى عليه من عمل يكون قد انبنى على غير أساس، أو على أساس هارٍ.. مثلاً: من العور المنهجي: تفسير كل حدث وكل واقعة وكل أزمة بان وراءها دافعاً أو هدفاً عقدياً دينياً.. ليس يُنفى العامل الديني ـ بإطلاق ـ فمن استقرأ التاريخ البشري بفهم سديد ووعي رشيد، لا يستطيع أن يتجاهل العامل الديني أو يلغيه، لكن تفسير كل شيء بالدافع الديني وحده: تنطع لا يقتضيه المنهج العلمي ولا يطيقه.. إن حروب استغلال الدين (المعروفة في التاريخ بالحروب الصليبية) لا تخلو من بواعث دينية لدى العامة ـ في الغالب ـ لكن الثقات من المؤرخين الأوروبيين يركزون على (الأسباب الاقتصادية) وإلا فلماذا قاتلت هذه الجيوش (الصليبية) الزاحفة إخوانها في المسيحية من البيزنطيين؟

وفهم العالم المتعدد الألوان: ليس لمجرد التمتع باللوحة الملونة، وإنما الهدف: تكييف منهج التعامل معه على أسس ألصق بالواقع، فمن مقتضيات هذا الفهم: أن نعلم: أن هذا العالم البشري ليس كله شراً بل فيه من الأخلاق والفضائل والمزايا والخير ما أثبتها الدليل آنفاً.. ومن مقتضيات هذا الفهم ايضاً: ألا نفرط في المثالية فنتوقع من الغير ما لا نفعله لأنفسنا. ولقد قال الرئيس الأمريكي (جون كيندي) كلمة، صارت حكمة، وهي: «يصعب علينا أن نساعد من لا يبتدر مساعدة نفسه».. ومن مقتضيات الفهم ـ كذلك ـ : ألا نقبل من الغير مثالية أو كلاماً جميلاً ـ عن حقوق الإنسان، والعدالة الدولية، وأريج الحرية ـ تمحوه الواقعية النقيضة التي يتعامل بها مع القضايا المختلفة.

موجز الكلام: إن في العالم الإنساني حُسناً وسوءاً، وفيه تدن أخلاقي، وفيه أخلاق رفيعة.

ولربما طرح سائل سؤالاً يحسبه محرجاً ملجماً ناسفاً وهو: إذا كان عند غير المسلمين هذا القدر من الفضائل والمحامد والأخلاق، فماذا بقي للإسلام؟ لماذا جاء الإسلام ابتداء بهداه؟.. والجواب في طرف القلم، أي بدهي، وهو:

أولاً: في مجال الأخلاق، ما جاء الإسلام لينشئ الأخلاق وإنما جاء ليتممها.. جاء ليبعثها ويحييها ويجددها وينشرها ويزين للناس ارتفاقها وتمثلها وممارستها.

ثانياً: إن الإسلام يشهد للآخرين ـ بالعدل ـ بما عندهم من خير ونبل وفضل وأمانة: «ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك».. فليس الإسلام (حاسوباً) متخصصاً في إحصاء مثالب الآخرين، وتسجيل معايبهم.

وهذان المحوران من أعظم وأجمل وجوه صدق الديانة الإسلامية، ومن أعمقها جذباًَ للنفوس، وتأثيراً فيها، ومن أقوى أسباب بقاء رسالة الإسلام واطرادها في الزمن المفتوح.