هل مات حزب البعث؟

TT

الناس مدعوون حالياً لدفن جثة البعث وبسرعة (على السنة) فقد وزعت بطاقات النعوة. وسبحان الذي قهر عباده بالموت.

وسوف يسجل التاريخ يوم 9 أبريل 2003 بأنه يوم الزلزال العراقي واختفاء صدام في السرداب ونهاية النظام البعثي الفاشي وبداية حقبة جديدة في التاريخ العربي.

وما حصل في العراق لا يخرج عن مصير الطغاة في التاريخ.

فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين.

والمشكلة في الجراحة الأمريكية أنها عالجت السرطان البعثي الخبيث فقطعت الرأس ولكن انتشارات السرطان ما زالت ناشطة. والبعث فارق الروح في العراق ولكن فروعه ناشطة في العالم العربي. وفي مقابلة مع رفيق حزبي لبناني قال إن تدمير الحزب سياسياً لا يعني أن فكر الحزب انتهى. وهو ما يردده الشيوعيون فيقولون إن الشيوعية لم تمت وأن أفكارها خالدة وهو أمر يذكر بقصص جحا الشعبية. ومن يتجاهل التاريخ عقوبته أن يتجاهله الواقع. ومشكلة الحزبي أنه يضع على عينيه نظارة لونية بألوان شتى هي خضراء للإخوان المسلمين وحمراء للشيوعيين وسوداء للبعثيين مثل النظارات الشمسية الغامقة في الشمس الحارقة.

ويرى مالك بن نبي أن لكل قرية مقبرتها ولكل ثقافة مقبرة للأفكار. وهو يرى أن الأمم تقتل بنوعين من الأفكار: (القاتلة) و(الميتة). فأما (القاتلة) فهي المستوردة من الخارج ولا تناسب البيئة كما في فكر حزب البعث القومي للوسط الإسلامي الذي أهلك الحرث والنسل. والأفكار (الميتة) هي تلك الأفكار التي ماتت في الثقافة ولم تعد تعمل مثل الجثة المتفسخة وفهمها أصعب. لأنها من التراث. ونحن نحب التراث ونتمسك به. إلا أن الناس لم تعد تركب الحمير والبغال منذ فترة طويلة بل الطائرات.

ويمكن تشبيه عملية نقل الأفكار القاتلة أو التشبث بالأفكار الميتة مثل عمليات نقل الدم. فأما (الأفكار القاتلة) فهي نقل الدم الحي مع الخطأ في الزمرة فيقتل المريض مع حاجته للدم. والغلط هنا أن الأفكار تعمل ضمن شروطها الموضوعية فإذا نقلت بغير شروطها قتلت، كما يقتل المريض النازف بالزمرة الغلط مع حاجته لها.

والفكر القومي في أوربا عمل في يوم فأنشأ أقطارا عظيمة مثل ألمانيا وفرنسا ولكن عفلق نقل الفكر الفاشي بدون شروطه التاريخية فقتل الأمة قتلا. والفاشية والنازية وليدة ظروف خاصة. والفكر (البعثي) الفاشي هو نقل للفاشية بعد أن علق موسوليني من عقبيه كالخاروف في المسلخ البلدي. وفي خريف 2003م دمر قبر عفلق مؤسس حزب البعث الفاشي فتذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا.

وأما (الأفكار الميتة) فهي نقل الدم من نفس الزمرة ولكن بعد مضي فترة الصلاحية. ونحن نعرف طبيا في مثل هذه الحالة أننا نحشو أوردة المريض بخثرات قاتلة فيموت المريض مع سلامة الزمرة. ففي الحالة الأولى هو دم حي مع اختلاف الزمرة وهو في الحالة الثانية نفس الزمرة مع فساد الدم بانتهاء الصلاحية.

وهذا الذي يحصل اليوم بين فكر (البعث الفاشي) وفكر (ابن لادن الأصولي) فأما ابن لادن فخطابه انتهت صلاحيته منذ فترة السلطان قلاوون الألفي قبل ألف سنة. وأما فكر البعث فهو توليفة خطيرة من الأفكار القاتلة والميتة مثل الجثة المملوءة بباكتريا في غاية الخطورة. فهي من طرف جثة (ميتة) وهي من طرف آخر تعج بباكتريا حية وقاتلة. ولذا يجب على الأنظمة التي ما زالت تؤمن بفكر متخلف من هذا النوع أن تتخلص منه بسرعة كما في دفن الميت على السنة فتعلن موعداً لجنازة حزب البعث للتشييع الرسمي.

وعندما مات نبي الله سليمان لم يخطر في بال الجن أنه مات والذي لفت نظرهم إلى موته كانت حشرة لم ينتبه لها أحد. وحزب البعث أصبح جثة منذ زمن طويل واعترف بهذا العاقلون منهم ولكن المستفيدين من اللصوص والأوغاد يراهنون على الامتيازات لآخر لحظة. وقديما كان الكهنة يوحون إلى الناس أن هبل حي. وحزب البعث اليوم بيد كهنة جدد حتى تأتي دابة الأرض فيسقط الصنم كما سقط في بغداد ويكون له دوي عظيم ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله.

ونظام حزب البعث الشمولي الفاشي ضعيف أكثر مما نتصور ولكن المعارضة أضعف منه. وما يطيل في عمر النظام هو توازن الضعف هذا. ولو أن المعارضة حزمت أمرها وقامت بالجهاد المدني بتنظيم مظاهرات سلمية كما حدث في جيورجيا لانهار النظام في لحظة عين. ويقولون متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبا.

وتختلف الاجتهادات اليوم في كيفية دفن جثة البعث فهناك من يقول إنه لن يأتي على ظهر دبابة أمريكية. ولكن الشعوب ملت وترحب بالخلاص ولو جاء على أجنحة الشيطان. والكويت استعانت بأمريكا لأن العرب أعجز عن تخليص الكويت من قبضة صدام. ومن كان في موضع الكويت استعان بالشيطان الرجيم. وهناك حقيقة مؤلمة ولا نعترف بها أن هناك الكثير من يرحب بقدوم الأمريكيين لا حباً في الأمريكيين بل حبا في الخلاص. ونحن في الطب نعالج تجرثم الدم ليس بالمراهنة على مقاومة الجهاز المناعي فهذا لا يفعله طبيب ولم يكن الطب العلاجي ليتطور في الأصل. بل يعالج المصاب بإعطائه ومن الخارج صادات حيوية فنكسر ميزان المقاومة لصالح الجهاز المناعي. وهو ما حدث في الخلاص من صدام وهتلر وموسوليني وميلوسوفيتش وبول بوت. ولولا تدخل روسيا في جيورجيا ما تخلص الناس من الطاغية والعصابة في 23 نوفمبر 2003م.

والآن بدأت أمريكا في تلميع معارضة غير معروفة وتطبخ شيئا في المنطقة ولكن المهم ليس في المعارضة بل الجو المهيئ لوجود أي معارضة. ويراهن (مارك بالمر) في كتابه (كسر محور الشر الحقيقي Breaking the real axis of the evil) أنه لن يدخل عام 2025 إلا وقد انقرض ما تبقى من خمسين ديكتاتورا في العالم. ومع طيران شيفرنادزه انخفض الرقم إلى 49. والسؤال الدور على أي وحش الآن في غابة العربان؟

وفلسفة التغيير الداخلي والخارجي يجب فهمها في عالم الأمراض. فعندما نعتمد على مقاومة الجسم الداخلي مع سقوطه في وهدة المرض نقامر بحياة المريض ولا يفعل هذا أي طبيب يحترم نفسه والعلم الذي تعلمه. بل يعالج المريض بالصادات الحيوية من الخارج. ومع أن صحة الجسم تحتاج للصادات الحيوية ولكنها لا تتوقف على الصادات الحيوية بل على إعادة الفعالية للجهاز المناعي. وهو ما فعله الأمريكيون في العراق فلم يكن للشعب العراقي أن يتخلص من السرطان البعثي لولا الاحتلال الأمريكي. وهي فرصة الآن للعراقيين كي يستفيدوا من المظلة الأمريكية فيفعلوا كما فعل الألمان فيبنوا بلدهم. ثم يطلبون من الأمريكيين الخروج بطريقة سلمية بدون قنابل وانتحاريين. والنظام البعثي والنازي صنوان من نفس العين الحمئة.

وهكذا فإن المعالجة المثالية هي تلك التي تعتمد توازن العناصر وتضافرها من الخارج والداخل. بين الصادات الحيوية والجهاز المناعي وخاصة في بعض أنواع الباكتريا الخطيرة المعندة من نموذج حزب البعث.

انتهى صدام وانتهى شيفرنادزه والدور على من بعدهما. ويمضي التاريخ وتنضج الشعوب ويسحق الجبارون سحقا. ويكتشف الناس في ذهول أن الموت حق لأنه يكنس الظالمين ويطور الحياة وبذلك يصبح الموت احدى مفردات الحياة.

يقول (ديورانت) إن الإمبراطور (كاليجولا) قال لجدته أنطونيا عندما حاولت نصحه: «اذكري أن في مقدوري أن أفعل أي شيء بأي إنسان» وأرغمها في النهاية على قتل نفسها. وذكر لضيوفه في إحدى الولائم أن في وسعه قتلهم أجمعين وهم متكئون في مقاعدهم. وكان وهو يحتضن عشيقته يقول لها ضاحكاً «سيطيح هذا الرأس الجميل بكلمة تخرج من فمي». ونجا عمه (كلوديوس) من القتل عندما تظاهر بأنه مجنون. وأخيرا طلب من الناس عبادته لأنه أفضل الآلهة ونصب تماثيله في مداخل المدن والساحات العامة. وفي النهاية قتل على يد ضابط من الحرس (البريتوري). وعندما ترددت الإشاعات في البلد أنه قتل لم يصدق الناس ويقول (ديورانت) إن: «كاليجولا عرف في ذلك اليوم أنه ليس إلهاً».