العرب ما بين حرية المعلومات وصناعة الرقابة..!

TT

في كلمته امام قمة المعلوماتية العالمي (World Information Summit) في جنيف، ركز كوفي آنان، السكرتير العام للامم المتحدة التي تنظم المؤتمر، على الغاية: التوظيف الامثل لتكنولوجيا المعلومات من اجل التنمية والتطور.

تطور البشرية وتنمية البلدان «المتخلفة» التي هُذبت الى «النامية». مبادرة الامم المتحدة ووكالتها اليونسكو تسعيان الا يفوت البلدان «النامية» قطار ثورة المعلوماتية بعد تحجج حكوماتها الديكتاتورية بان الاستعمار ـ رغم نهايته منذ نصف قرن ـ كان سبب تخلفها تكنولوجيا.

اكثر من 70% من مستخدمي الانترنت، كما يشير تقرير للبنك الدولي، يعيشون في الـ24 بلدا الاغنى في العالم ويسكنها اقل قليلا من 16% من سكان العالم.

وحوالي 70% من مواقع الانترنت، باللغة الانجليزية، وإذا شملت الـ30% مواقع بالالمانية والفرنسية والاسبانية والايطالية والعبرية واليابانية والهولندية والبرتغالية والروسية، فيا لضآلة مساهمة مواقع اللغة العربية في «زحمة» المواقع الصينية والفارسية والتركية والهندية والاوردو والسواحيلي.

التقرير يشكك في مصداقية ودقة المعلومات في المواقع غير الاوروبية، مما يجعلها مصدر تضليل للباحث عن المعلومات.

ولقاء جنيف هو اول مؤتمر للمنظمة الدولية لتطوير ايجابي: فخبرتها السابقة لاجتماع بسبب حروب ومشاكل سلبية. ولذا عبر المستر آنان عن قلقه من استحواذ مسالتين على جهود المؤتمرين في جنيف: اولهما مسالة «حكومة الإنترنت او ادارة الانترنت»، والثاني هو الرقابة وحرية تدفق المعلومات.

الجهة الوحيدة المشرفة، لا تتبع حكومة وانما تمول من الاشتراكات من تسجيل اصحاب المواقع، هي ICANN الحروف الاولى من شركة ـ او هيئة ـ corporation ـ الانترنت لتوثيق الاسماء والارقام، والمقصود بها «مواقع الانترنت»، حيث ان ICANN هي المقابل «الشهر العقاري» للانترنت وهي في امريكا ليس بسبب «مؤامرة امبريالية صهيونية» انما كصدفة تاريخية لأن الانترنت اختراع امريكي.

وهناك جدل وجيه، عن ضرورة ايجاد معاهدة او بروتوكول لمواجهة امور تتعلق بمشاكل تتجاوز قوانين النشر والقذف وحقوق التأليف القومية لأن الانترنت لا تعرف الحدود الدولية، وايضا مواجهة ما يتعلق بـSPAM وهو الفيض الهائل من الرسائل الالكترونية غير المطلوبة ـ وهي في حالة مكتبي مثلا تبلغ 600 رسالة في اليوم ـ من اعلانات للتخسيس، أو لـ«نتف» الشعر الزائد، او سلع الكترونية او اوكازيون للفياجرا او برامج مواجهة الـSPAM.

هناك جدل «حق يراد به باطل» من حكومات العالم الثالث داعية لإمساك وزارة الداخلية ـ وليس وزارة المواصلات او مصلحة التليفونات مثلا ـ بـ«لجام» توجيه سير الانترنت.

وقد ثبت تاريخيا ان اي مشروع، تثقيفيا كان، أو تجاريا، او جمعا بين الاثنين، يقع في قبضة الحكومة، سينتهي حتما الى كهف ديناصور البيروقراطية، خاربا بيت وزارة المالية ومهدرا اموال دافعي الضرائب.ٍ

ومن هنا نصل الى المسألة الثانية التي تسيطر على اعمال المؤتمر، وهي الرقابة على المعلومات بحجج شتى مثل حماية الاخلاق والنشء وعدم ملاءمة معلومات معينة لثقافة معينة وغيرها من تبريرات وزراء الاعلام والداخلية ورجال الدين وجيش العاملين في كيان ولد كظاهرة في الكتلة الشيوعية المهزومة، وطورتها العبقرية الشرق الأوسطية الى صناعة مربحة للبعض: صناعة الرقابة.

لا أعلم بأجندة اي من اعضاء جامعة الدول العربية في المؤتمر ـ فقد فضل 22 ملحقا صحفيا ذهب السكوت.

لكن اعرف ما شارك به المجلس البريطاني، من اموال دافع الضرائب البريطاني، منفقا بسخاء على سفر وفنادق منذ ثلاثة اشهر، في برنامج «عشرة صحفيين ولغتان» لتدريب خمسة من صحفيي اللغة العربية من خمس جنسيات شرق اوسطية، وأوروبية، وخمسة من صحافة اللغة الانجليزية، من اربع جنسيات اوروبية وافريقية.

ويصل التدريب ذروته بتغطية العشرة للمؤتمر ساعة بساعة على موقع على الانترنت، تحت اشراف بعض «عواجيز الصحافة» لتدريبهم على الحرفية من دون التدخل في المضمون; ويدعون اي انسان من اي مكان، لمناقشة ونقد ما ينشرونه، بحرية تامة; فالانترنت «هي الساحة الحقيقية للديموقراطية».

اكتشفت من لقائي بالعشرة ـ ضمن ندوة ضمت عشرين آخرين ـ شرخا في الوعي الصحفي المؤتمر. انفصام على جانبي الخط اللغوي، وعلى جانبي النظام السياسي والهوة الاكبر بين مفهوم «توجيهه الدولة» واعلام الاقتصاد الحر الذي يعتمد على توزيع الصحيفة او جذب المشاهدين.

ظهر اتجاه شرق اوسطي، من اعلام حكومي بضرورة الوصاية على القارئ بحجة «تثقيفه» وحمايته من اخبار وفقرات «ضارة» و«هايفة» لن تفيده.

الامم المتحدة ذكرت الاغنياء بواجبهم بتطبيق المادة 19 من ميثاق حقوق الانسان الذي وقع عليه الجميع عام 1948، قبل انتشار التلفزيون وقبل ان يحلم اكثر المتفائلين تكنولوجيا بميلاد الانترنت.

المادة تشير، الى جانب حرية التعبير، الى حق المعرفة وحق الانسان في الحصول على المعلومات والاتصالات بين البشر وتدفق المعلومات من دون خضوع لحدود او قيود.

ولم تذكر المادة اي شيء عن «وصاية» او «كهنوت» معلوماتي يعطينا «كصحفيين محترفين» الحق في تحجيم المعلومات او «تنقيتها» قبل الوصول للناس، ولا ذكر فيها لوزراء الاعلام وهيئات رقابة او اي من الحجج التي يسوقها اصحاب الفضيلة او دور لهم «لحماية» الانسان من «اخبار هايفة» تضر بصحته الثقافية.

وفضلا عن اثبات التاريخ ان حرية التعبير والحرية السياسية لا ينفصلان عن الحرية الاقتصادية والرخاء، فإن تدفق المعلومات بحرية والاتصال بلا قيود بين الافراد, هو زواج ينجم عنه ميلاد افكار جديدة وفتح آفاق وتسامح وقبول «الآخر» بشكل يجفف مستنقع الجهل الذي تنمو فيه طفيليات الارهاب وكيانات تعطيل التطور والتنمية الانسانية.