ماحدث يتعدى إثارة السخرية

TT

بدأ جيمس بيكر مهمته الجديدة الخاصة بالتفاوض حول اعفاء ديون العراق الخارجية مع حلفاء الولايات المتحدة الذين اعترى علاقاتهم مع واشنطن بعض التوتر في وقت سابق من العام الحالي بسبب الحرب ضد العراق. ولكن في نفس الوقت الذي بدأ فيه بيكر مهمته اعلن نائب وزير الدفاع، بول وولفويتز، عن توزيع عقود إعادة إعمار العراق، اذ ان وولفويتز لم يستبعد فحسب هذه الدول الحليفة من المنافسة في هذه العقود، بل عبر عن ذلك بلغة عدائية. ترى ما الذي يحدث؟

ربما يبدو الامر وكأنما حدث منسوب برمته الى وولفويتز، إلا انني لا اعتقد ان ما حدث يقتصر فقط على الافتقار الى الكفاءة والتقدير السليم للامور. فصقور الادارة الاميركية يعملون عن عمد على عرقلة وتخريب أي اتجاه نحو المصالحة والخروج من حالة التوتر التي ظلت مسيطرة على علاقات واشنطن مع بعض الدول الحليفة لها.

من المؤكد ان الامر لا يتعلق فقط بحجز وتخصيص عقود إعادة إعمار العراق لأصدقاء ومحاسيب الادارة الاميركية. لا شك ان شركة هاليبيرتون تحقق ارباحا في العراق ـ ولكن هل سيقر المدافعون عن الادارة الاميركية بأن عمليات المراجعة التي اجراها البنتاغون توصلت الى وجود تقديرات باهظة لبعض مشاريع إعادة البناء؟ تجدر الاشارة هنا ايضا الى ان تقارير تحدثت عن وجود فضيحة في برنامج شركة بيكتيل الخاص بصيانة المدارس.

ما يمكن قوله هنا هو انني توصلت الى ان المزاعم التي تحدثت حول دوافع الحرب على العراق غير قابلة للتصديق تماما مثل المزاعم التي ذهب اصحابها الى ان الحرب كانت تتعلق بالحرب ضد الارهاب. ثمة دوافع عميقة هنا.

المنطق الرسمي لبول وولفويتز ازاء توزيع عقود إعادة إعمار العراق مثير للسخرية. فقد قال ان الحد من المنافسة حول العقود الرئيسية سيشجع توسيع التعاون الدولي في العراق وفي المساعي المستقبلية لتعزيز الامن والاستقرار فيه، كما قال ايضا ان هذه السياسة ستشجع استمرار التعاون بين اعضاء التحالف. فالمعنى المتضمن في هذين التعليقين هو ان الولايات المتحدة تحاول تقديم رشوة للدول الاخرى لكي ترسل قوات الى العراق.

لكنني اشك في ما اذا كان وولفويتز نفسه يعتقد في ذلك. فأحداث مثل فشل واشنطن في الحصول على مصادقة الامم المتحدة على شن الحرب على العراق ثم التراجع الذي حدث فيما يتعلق بالضرائب المفروضة على الصلب المستورد كانت بمثابة درس على محدودية نفوذ الاقتصاد الاميركي. يدرك وولفويتز، كما ندرك نحن ايضا، ان حلفاء واشنطن الذين يمكن ان يقدموا مساعدات حقيقية لا يمكن السيطرة عليهم من خلال بضعة عقود مغرية.

ترى، اذا لم تنجح هذه العقود في ايجاد نفوذ فاعل ومفيد، لماذا إذاً الاتجاه الى نسف المصالحة المحتملة بين واشنطن وحلفائها؟ ربما لأن فصيل وولفويتز لا يرغب في مثل هذه المصالحة.

ليس ثمة شك في ان المرحلة الراهنة تعتبر محكا صعبا لمهندسي «نهج الرئيس بوش» القائم على التصرف من جانب واحد والاعتقاد في سياسة الحرب الوقائية. فنائب الرئيس بوش، ديك تشيني، ووزير الدفاع، دونالد رامسفيلد، ورفاقهم في «مشروع القرن الاميركي الجديد» ينظرون الى العراق كبرنامج تجريبي يثبت صحة وجهات نظرهم ويمهد الطريق صوب تغيير المزيد من الانظمة الحاكمة.

إلا ان المشروع جاء بنتائج عكسية، اذ بات الكثير من العارفين ببواطن الامور والمقربين من البيت الابيض ينظرون الى مهمة جيمس بيكر الخاصة بمساعي إعفاء ديون العراق كونها مساعي من الاعضاء القدامى في إدارة بوش الاب لفك بوش الابن من قبضة الصقور. فإذا انهارت مساعي بيكر وسط الخلافات المتعلقة بعقود إعادة الإعمار، سيكون ذلك امرا ايجابيا في نظر صقور الادارة الحالية.

يجب ان نضع في الاعتبار ايضا انه ثمة ادلة على وجود تهور وحماقة من جانب صقور ادارة بوش مثل اللقاءات السرية التي جرت خلال فصل الصيف الماضي بين مسؤولين في البنتاغون يعملون مع دوغلاس فيثن مساعد وزير الدفاع لشؤون السياسات والتخطيط، وشخصية لعبت دورا رئيسيا في تضخيم الخطر العراقي، بالاضافة الى شخصيات ايرانية مثيرة للشكوك. يجب ان نلاحظ ايضا ان الضجة التي تثيرها العناصر المتشددة في ادارة بوش كلما حاول انصار المصالحة وصيانة العلاقات مع الحلفاء التقدم خطوة في هذه الاتجاه باتت ممارسة منتظمة.

هناك مثال واضح على هذا التوجه. ففي اغسطس (آب) الماضي نجح كولن باول فيما يبدو في إقناع الرئيس بوش بأن الولايات المتحدة طالما لا تفكر في شن حرب على كوريا الشمالية يجب عليها التفاوض معها. إلا ان جون بولتون، مساعد وزير الخارجية للحد من التسلح، والذي يوصف بأنه «رجل المحافظين الجدد داخل الخارجية الاميركية»، القى كلمة حول كيم جونغ ايل قال فيها «ان الاستسلام لمطالب هذا المبتز لا يعني سوى تشجيعه وتشجيع الطغاة الآخرين».

ما يمكن قوله باختصار هنا هو ان الجدل الدبلوماسي هذا الاسبوع ربما يعكس صراعا داخليا على السلطة في واشنطن استخدم فيه الصقور القضايا ذات الصلة بعقود إعادة إعمار العراق كوسيلة لقطع الطريق أمام الجمهوريين المعتدلين حتى لا يستعيدوا السيطرة على السياسة الخارجية الاميركية. وطبقا للمؤشرات الاولية، فإن هذه الحيلة حققت نجاحا فيما يبدو، اذ انهم نجحوا مرة اخرى في استغلال إعجاب بوش بصيغ الخير مقابل الشر الاخلاقية. فقد قال بوش في حديث له يوم الخميس: «مواطنونا خاطروا بأرواحهم. حلفاؤنا خاطروا بأرواحهم ايضا. توزيع عقود إعادة إعمار العراق يجب ان يعكس هذا الواقع».

نهج بوش القائم على التضليل والوهم حول عظمة ومقدرة الولايات المتحدة على السيطرة على العالم من خلال القوة، سينهار في نهاية الامر. وما يمكن ادراكه من خلال تطورات الاحداث في الايام يشير بوضوح الى ان انصار نهج بوش سيقاتلون بقوة وشراسة ضد امر محتوم.