العراقي ومعجزة الالتحاق بالحياة من جديد..!

TT

المجتمعات التي عانت كما عانينا من السلطات الشمولية أو القمعية تنتسب في علاقتها بالديمقراطية، الى حالتين: حالة الطاعة الكلية، التي خبرتها بعض بلدان أوروبا (اسبانيا، البرتغال، اليونان، وبعض بلدان أوروبا الشرقية). حالة الطاعة هذه لم تفتقد في ذاكرتها مذاق المناخ الديمقراطي القديم، الذي سبق المرحلة الدكتاتورية. والثانية هي حالة الافتقاد الكلي لأي خيط يربطها بالحياة السوية ومعناها، كما حدث مع المجتمع الروسي، وألبانيا ورومانيا.

التغيير الذي حدث لكليهما قاد المجتمع الأول الى تعامل سليم ومعافى مع المناخ الديمقراطي الجديد. في حين قاد المجتمع الثاني في مخاضة العثرات. فروسيا لم تعرف الديمقراطية قبل ثورة إكتوبر، وديمقراطيتها الجديدة مليئة بالشوائب.

الفرد في المجتمع الثاني، المذعور من الماضي، الذي لا إنسانية فيه، لا يعرف معنى الخيارات الفردية الحرة. فرديته استلبت وأُعدمت، واستبدلت بهوية الرقم داخل القطيع. ولكي يُسهم في الحياة الديمقراطية الجديدة، يستدعي الأمر منه قدرةً على الخيار السياسي الحر. ومن لا يحسن ممارسة الاختيار الفردي الحر لن يحسن، بالضرورة، ممارسة الاختيار السياسي الحر.

فلأي منهما ينتسب المجتمع العراقي والفرد العراقي؟

ذاكرتنا تنعم بمذاق غامض الملامح لديمقراطية ارتبطت بالديمقراطية البريطانية في الخمسينات وما قبلها. مبنى البرلمان المهيب على النهر في كرادة مريم لم يردد في أبهائه معترك أعضائه، إذ استلمته ثورة عبد الكريم قاسم قبل اكتماله وسمته مجلساً وطنياً، بعد أن ألغت الدستور. ثم تم إلحاقه مع الأيام بجهاز السلطة المثير للذعر.

هل بقي من مذاق الذاكرة الديمقراطية ما يكفي الفرد العراقي اليوم للشروع في تكوين أولي لقدرته على الاختيار الفردي الحر. في القدرة على الفصل، مثلاً، بين انتسابه القومي، والديني، والطائفي، والفكري، وبين هويته الوطنية؟ أو القدرة على وعي أن حريته الفردية إنما تتحقق بحرية كل فرد في محيطه؟ أو أن السعادة الأرضية هي مسعى كل قومية، ودين، وطائفة، وفكرة؟

لا شك أننا، نحن العراقيين، نملك شيئاً من ذلك المذاق، ولكنه لا يكفي. ولا شك أننا نملك أن نستعيد كفايتنا منه، ولكن لمرحلة قد تطول. هذا إذا ما اقتصرنا في تفكيرنا على إنجاز «حرية الاختيار الفردي» للإنسان العراقي. أما «حرية الاختيار السياسي» فستبدأ ملامحها ما أن تبدأ ملامح استيعاب العراقي لحريته الجديدة.

إن ركام اللغة الايهامية الباطلة سدت علينا كل الطرق السالكة بين الانسان والحياة. لغة «ثقافة الاعلام» على امتداد نصف قرن رفعتنا عنوة في بالونة هواء، ترتفع بقدر ما تُغذى بالدخان، حتى فارقنا الواقع الأرضي والحياة تماماً. والآن شاءت الأقدار أن تحقق معجزة لا تُحسب حساب المنطق. وبدأ العراقي يرى بعينيه كيف ترسب تلك اللغة والمفاهيم والأفكار والشعارات والأناشيد كما يرسب الغبار بعد العاصفة. إنه يفتش عن بدائل يقطفها من الحياة وخبرتها مباشرة. أرجع كل الكتب النظرية المشبعة ببخور القداسة الى الرفوف. وبدأ يميز، وفق ميزان السوق الذي كان لا يبالي به، بين النافع والمؤذي. بين الصديق والعدو.

إن سنة أو سنتين قد تكفي العراقي لوعي معنى حرية اختياره الفردي. سنة أخرى لن تكون قاصرة عن منحه حرية اختياره السياسي. الخبرة عظيمة والسنوات قصار، لأن خبرة العراقي في الأذى والعذاب فريدة، وفرادة هذه الخبرة كفيلة بإنجاز المعجزة الثانية في الالتحاق بالحياة من جديد.

* كاتب عراقي