خراج تكريت

TT

ولد صدام حسين في عنف قرية العوجة وبؤسها. وتيتم مبكرا. وكره بيت زوج الام، او العم، ولجأ الى دفء بيت الخال. ومن شقاوة العوجة الى قلق بغداد وضياعها. وفي بغداد بدأ يبحث عن شيء أفضل. اي شيء. ووجد في حزب البعث الطريق المثالي للخروج من بؤسه ووضعه وآلام الريف.

وكانت الاحزاب في تلك المرحلة السبيل الوحيد امام الطبقات المعزولة من اجل الوصول الى الترقي، وكانت الطريق الواثق للحصول على الاعتبار.

حلم صدام حسين، بأن يصبح عضوا في الحزب. وعندما اصبح عضوا اراد ان يصير متقدما. وعندما صار متقدما اراد ان يصبح زعيما، وعندما اصبح زعيما اراد ان يصبح في قيادة البلاد. وعندما اصبح في مركز القرار اراد ان يصبح هو صاحب القرار وهو القائد وهو الرئيس. وعندما اصبح هو العراق اراد ان يصبح هو العرب فمزق الاتفاق مع ايران على التلفزيون ودخل في حرب مع الثورة الايرانية. واستعان على الثورة بجميع خصومه، من اميركا الى النظام العنصري في جنوب افريقيا. ولما نجح في وقف المد الايراني لم يعد يكتفي بان يكون هو العرب بل اراد ان يكون هو العروبة وهو الرشيد وهو الزعيم على مصر وسورية. ورأى ان الطريق تبدأ في الكويت ومنها الى الامارات ومنها الى السعودية. ومنها الى اي مكان.

ومن هناك الى زعامة عدم الانحياز والى قيادة العالم الثالث والى مكانة مواطنه الكردي صلاح الدين اليوسف. ولكي يكون في مرتبة صلاح الدين لا بد من تعديل شجرة العائلة، فجعل نسبه من سلالة آل البيت وصار هاشميا وسرت شرايين العائلة الى الامام علي ابن ابي طالب (رضي الله عنه) ولما لم يقتنع شيعة العراق بصلة القربى احل بهم ما احل بالاكراد من قبل وارسل في اثارهم طائرات الهليكوبتر الاميركية الصنع، والدبابات التي زوده بها الاميركيون لاستعادة الفاو في معركة كانت اضخم من معركة برلين.

كان من الصعب اقناع اليتيم القادم من اكواخ العوجة وحقولها، ان للاشياء منطقا وللطموحات حدودا وللزعامات شروطا. كأن تعرف مثلا ما هي رغبة الاخر وموقفه. فالدول ليست فردا يمكن اعدامه. والامة ليست خراجا لتكريت. والشعوب لا تبيد ارادتها قنبلة في حلبجة. ولم يدرك الرجل ان في منطق التاريخ شيئا آخر غير القوة والمال. هناك تلك القوة السرية الغامضة في الناس التي تدعى المقاومة. ولم يعرف ان الناس تداهن وتبطن وتتربص. وسوف يدرك ذلك من معتقله عندما يعرف ان اول من اعلن اعتقاله هو جلال الطالباني، الذي لم يمانع في التحالف معه. ومن ثم لم يمانع في السفر الى واشنطن والتقاط الصورة التذكارية مع المسز اولبرايت. واي مغزى تاريخي او انساني ان يعلن الطالباني نبأ اعتقال صدام حسين عن طريق وكالة الانباء الايرانية!

لقد تجمعوا له مرة واحدة. هكذا تعامل الحياة الذين لا يشبعهم شيء في الحياة ولا يكفيهم شيء. وسوف يدخل صدام حسين التاريخ على انه درس في التاريخ وليس امثولة واحدة. سوف يدرس على انه الفقير اليتيم الذي اعطي اغنى دولة عربية ولم يكتف. واعطي حكم بغداد ولم يشبع. واعطي اول حكم بعثي في العالم العربي فدمره. واعطي اغنى ارض فترك فيها 45 في المائة من الاميين. واعطي ارض المن والسلوى فتركها بيوتا خرباء من الطين. لكنه اتقن صناعة التماثيل. والنصب. والجادات التي تحمل اسمه وحده. فلا احد ولا شيء سواه. ولا بندقية سوى بندقيته.

هذه ليست صفحة تطوى. هذا مجلد من حروب العبث واستبداد العبث والدعوات المفتوحة الى الاحتلال. واسوأ ما في كل هذه المأساة ان المناضل صدام حسين وجه الدعوة الى الاميركيين مرتين. في المرة الاولى اعتذروا عن عدم الحضور. وفي الثانية جاءوا ومعهم ادوات المطبخ.