بغداد.. بصرة.. واشنطن.. بوش.. الحجاج.. صدام

TT

لست مع هذا الزخم والتهليل الذي صاحب وسيصاحب إلقاء القبض على طاغية، هو بكل المقاييس من أشرس الطغاة عبر التاريخ، ولكن الاعلام عموما، وليس الأميركي وحده، مثل طيور الشحرور الجالسة على أغصان أو أسلاك هاتف، إذا طار واحد منها تطير البقية معه وتتبعه. وأتوقع أن تأتي سائر التغطيات منقوصة، قد تزودنا بآفاق ما بعد الاعتقال، وربما يتيح القبض عليه الانكفاء للوراء والى ما قبل الاعتقال لجهة التأكد من 35 طنا من الوثائق يقول الأميركيون أنها حافلة بتجاوزات ستشيب لها رؤوس الولدان عن 35 عاما من القهر والجرائم التي مارسها صدام ونظامه ويومها لن يعرف عشاق الطاغية ماذا سيقولون في مسافة زمنية أراها كيوم الحشر، يوم أن تضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى لأن بأس الوثائق والتجاوزات سيكون شديدا.

ولكن ليست تلك هي القضية، لأني أراها في اتجاه آخر لجهة اغتنام صدام لهذه الفرصة الذهبية التي أصبحت الآن بين يديه ليقول كلمته للتاريخ وليوازن بين صورة المفكر والروائي فيه والتي اغتصب بها ذاكرة شعب وأمة وبين دراكولا مصاص الدماء التي يعرفها القاصي والداني، وأيا كانت القصة، ومتى ما حفلت بأسرار، ولن تخلو منها، فسيكون فيها وبلا جدال خير تستخلصه أمة عربية اسلامية أفقدها ملايين الأنفس في ثلاثة حروب بما فيها غزو العراق، دعك عن صرعاه وهم أضعاف تلك الألوف من سكان بغداد والبصرة ممن كانوا صرعى يزيد والحجاج من قبل.

بوسع صدام في هذا السيناريو المستحيل أن يكذب أيضا في محاكماته القادمة، وأن يلبس من أسقطوه ما يشاء من تهم، وأن يقدم نفسه كنصف ضحية ليقلل من كلية الجاني التي تتشكل الآن بايقاع سريع ستغذيه طيور شحرور الاعلام العالمي.

من الممكن أن يفكر صدام في مثل هذا السيناريو اللهم الا اذا أقدم على الانتحار أسوة بهتلر، وإن كنت لا أراه سيفعل ذلك، وكثيرون قد لا يعلمون أن بعض الطغاة جبان في داخله، وبعضهم يخفي شخصية منحلة ولكنه يعوض كل ذلك بسادية.

وفي العراق التربة التي انجبت صدام طلب خليفة من هجائين أن يتباروا في مجلسه على شتيمة الحجاج بن يوسف صاحب الخطبة الشهيرة لأهل العراق والتي قال فيها (وإني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها وإني لصاحبها) ففاز من قال ما معناه انه كان أمام العامة يبدو صارما عبوسا، ولكنه واذا ما جن المساء واختلى الى صفوته كان يأتي بما يقارب سلوك النساء، ابتهج الخليفة وصفق وقال: (لعمرك هذا هو الشتم، وليس ما قالت به السفلة).

وكذلك كان الحال مع زياد الذي ولاه معاوية على البصرة فجاءها ليلقي على أهلها خطبة البتراء المعروفة وسميت كذلك لأنه لم يحمد الله فيها، وفيها قال: (وإني لأقسم بالله لآخذن الولي بالمولى والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر والمطيع بالعاصي والصحيح منكم في نفسه بالسقيم حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: أنج سعد فقد هلك سعيد أو تستقيم قناتكم. الى أن يقول: (واذا رأيتموني أنفذ فيكم الأمر فانفذوه على إذلاله وايم الله ان لي فيكم لصرعى فليحذر كل امرئ منكم أن يكون من صرعاي).

لصدام صرعاه ولا جديد، وليس هنا مجال الحديث عن كيف بقي وكيف صمد لـ245 يوما وهو في عداد المطلوبين ليمارس هواية القتل ولكن الجديد يكمن في قابلية قائمة يكون بوسعه أن يقدم فيها ومن خارج القصور والسلطة الصورة التي يريدها لنفسه كانت تلك التي قدمتها عنه بنته رنا إذا أراد، أو تلك التي يكابر عليها من ابتلاهم الله بشهوة البطن والجيب، أو صورة الافكاتو المحامي أو تلك المخضبة بأفق المفكر وخيال الروائي، أو صورة الحجاج أو يزيد، تاركا الحكم للتاريخ وليس لأميركا التي أهداها صدام أضعاف ما كانت تحلم به، ومع ذلك خلعت عن نفسها ثياب الديمقراطية وجاءته الى بغداد بخطبة يزيد البتراء يوم أن طالبته بالرحيل، وبكلمات الحجاج القاطعة عن الرؤوس التي أينعت وحان قطافها.

[email protected]