طبخة واشنطن الرديئة.. بل والقبيحة!

TT

حدث شيء غير عادي الثلاثاء الماضي، في مركز كيندي بواشنطن حيث اشتركت الأوركسترا الوطنية العراقية والأوركسترا الوطنية الأميركية في أداء أعمال مختلفة، عراقية وأميركية وعالمية، هذه من بغداد وتلك من واشنطن. وخلال هذه اللحظات القصيرة المضيئة كان العراقيون والأميركيون يعزفون موسيقى الأمل والمستقبل.

ليت الحياة تقلد الفن هنا!

ولو استطاع الرئيس بوش أن ينسق أعمال العازفين المشاركين في سيمفونية إعادة بناء العراق، كما نسق عمل الفرقتين الموسيقيتين، المايسترو ليونارد سلاتكين، لكنا توصلنا إلى نتيجة جيدة في العراق.

ومع ذلك فإنني قلق. أيها الأصدقاء لدينا مشكلة قلوب وعقول في العراق. فقد أعطيناهم قلوبنا وفقدنا عقولنا. فنحن نيتنا حسنة فيما يتعلق بما كنا نريده للعراق. ولكن من الممكن أن ننفذ شيئا جيدا بصورة سيئة. صحيح أن بناء الأمم يتسم دائما بكثير من الاضطراب والفوضى، وخاصة في وضع معقد كالوضع العراقي. وكما يقول المثل لا تشاهد السجق أثناء صناعته. فماذا يكون الحال لو أن السجق نفسه صنع صناعة رديئة؟ يا لها من صورة قبيحة إذن!

ولدت هذه الافكار حوارات أدرتها هذا الشهر مع مجموعة متباينة من المسؤولين عن رسم سياسة العراق، سواء كانوا أميركيين أو عراقيين.

يتفق الجميع على أن الهدف هو بناء عراق ديمقراطي. ولكن تلك المحادثات لم تساعدني على تبين الطريق الذي يمكن أن نسلكه من هذه النقطة في الزمان وحتى الوصول إلى ذلك الهدف، أو حتى من هو المايسترو الذي سينسق هذه السيمفونية بجوانبها الدبلوماسية والمالية والعسكرية. وقد التقيت بمسؤولين كثيرين على أمل أن أطلع منهم على تفاصيل «الخطة» ولكني لم أحصل مطلقا على ما أريد.

القصص التي أسمعها هي تلك التي تدور حول الإجراءات البيروقراطية الصارمة التي يفرضها البنتاغون ووزارة الخارجية، على كل من يريد أن يعمل في العراق. فثمة حرب عصابات مشتعلة بين وزارة الخارجية والبنتاغون، وبين وكالة المخابرات المركزية والبنتاغون، تصل في حدتها إلى أن كلا من هذه الأطراف يتمنى فشل الآخر في ما يضطلع به من مهام. كما أن هناك انقطاعات مأساوية بالنسبة للكوادر العاملة هناك والتي تخضع للتغييرات السريعة المفاجئة. أستمع إلى المدنيين الأميركيين وهم يطالبون بارسال مزيد من القوات الأميركية وقوات الأمن، إذا كنا نريد فعليا أن نقيم سلطة عراقية شرعية، كما أستمع إلى العسكريين الأميركيين يعلنون أن الوسيلة الوحيدة لاشاعة الأمن والإستقرار هى إقامة حكومة عراقية شرعية، حتى يحدد العراقيون الهدف الذي يقاتلون من أجله والجهة التي يقاتلون من أجلها. وقد نفدت أو كادت أموال العسكريين التي يصرفونها على الأصدقاء، كما نجحنا مؤخرا في إشعال معركة مع قطر التي تستضيف رئاستنا العسكرية الإقليمية (حول معالجة الأخبار).

وصلت لتوي إلى اسطنبول، حيث قال لي صديقي التركي، البروفسور في العلاقات الدولية، سولي أوزيل، أن الولايات المتحدة أفسدت شهر العسل الذي أعقب نهاية الحرب بالعراق، بحيث أن أصحاب نظرية المؤامرة الأتراك أنفسهم أعلنوا دهشتهم مما يحدث.

«الناس لا يصدقون أنكم، ورغم كل مواردكم المالية والبشرية، لم تفكروا في اليوم التالي لنهاية الحرب».

من المفهوم الا يسارع فريق بوش ليعطي عقودا للفرنسيين والالمان والروس، في خطة إعادة التعمير، ولكن لماذا نلوح برفضنا في وجوههم في نفس الوقت الذي نطالبهم بإعفاء ديونهم على العراق؟ لماذا لا نقول لهم انهم كلما بحثوا عن الطرق المناسبة لمساعدتنا، اقتطعنا لهم جزءاً من كعكة إعادة بناء العراق؟

من الأمور الإيجابية أن يكون لديك رئيس يقود العملية كلها، مكانه فوق الآخرين، وهو الذي يشرف على وضع الأجندة، على أن تكون الإدارة موحدة داخليا ومتفقة مع حلفائها الاساسيين. ولكني أخشى أن يكون لدينا رئيس يحدد الأجندة، ولكنه يجلس فوق هياكل بيروقراطية متصارعة، وحلفاء منقسمين على أنفسهم، وليس هناك من يوحد الأدمغة.

ولا يمكن تحقيق النصر في بلد معقد مثل العراق دون أن تكون لديك خطة عملية لتكوين حكومة واسعة القاعدة، وبدون فريق موحد تحت إدارتك لتنفيذ تلك الخطة.

هذا الذي أقوله لا ينم عن يأس. ولكن العراق مليء بالمفاجآت، وبعض هذه المفاجآت يمكن أن يكون سارا. ولكن إحساسي يقول لي اننا لم ننظم أنفسنا بعد. ومع أننا نملك القلب السليم، إلا أن ذلك وحده ليس كافيا.

ما الذي حرك هذا الغضب؟ إنه صورة جاءت على الصفحة الأولى من هذه الصحيفة لجندي أميركي تعلق به أطفاله وهو يغادرهم إلى العراق قبل أعياد الميلاد بفترة قصيرة. تلك الصورة تركت غصة في حلقي. وقد قذفت في وجهي السؤال التالي: هل استطيع أن اقول لأطفال ذلك الجندي أن الحكومة الأميركية فعلت كل ما في وسعها حتى يعود والدهم سالما ومنتصرا؟

لا أستطيع أن اقول لهم ذلك، وهذا الأمر يزعجني جدا.

* خدمة «نيويورك تايمز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»