زنبقة كنعانية

TT

نحن في حل من التذكار فالكرمل فينا

وعلى أهدابنا عشب الجليل

لسنا في حل من التذكار يا محمود فهذه فدوى الكنعانية التي جاءتكم الى حيفا بعد اول ربيع للنكبة وكانت سامقة كزنابق نابلس ومعطرة كحبق بيسان وصلبة كصخور جرزيم لتقول لكم: لن ابكي.

وتلك قصيدة ما قرأها عربي أصيل إلا وبكى فرحا وفخرا بهذه النوعية من النساء التي قال عنها صديقنا الأبدي ذاك الذي على قلق كأن الريح تحته:

ولو كان النساء كمن فقدنا

لفضلت النساء على الرجال

أفتح ديوان فدوى طوقان الاول "وحدي مع الايام" المهدي الى روح شقيقها ابراهيم فأجدها تحكي عن جنازتها أمس بود ومحبة صافية من أول قصيدة:

هذي فتاتك يا مروج فهل عرفت صدى خطاها

عادت اليك مع الربيع الحلو يا مثوى صباها

عادت اليك ولا رفيق على الدروب سوى رؤاها

كالأمس كالغد ثرة الاشواق مشبوبا هواها

ويا لهواها المشبوب الذي لولا رسائلها الى انور المعدواي وتفسيرات رجاء النقاش لها لم نعرف عنه شيئا ففي بلادنا لا بأس ان تقاتل المرأة وتفجر نفسها لكن من العيب ان تحب ومن ذا الذي يمنع - يا أعداء العواطف ـ وردة من ان تغازل القمروتطرز على وجه الشمس والشعر أحلام اشتهائها ونزوات صباها.

أمد الله في عمره وحفظ لنا ذاكرته نيقولا زيادة فقد ذكرنا انهم أخرجوها من المدرسة من أجل وردة حمراء رماها مراهق من عمرها الى حجرها ومن أخرجها؟ أحمد ونمر والثاني ورغم ما فعل بالتضامن الاخوي رثته في ديوان (امام الباب المغلق) بأكثر وأفجع مما رثت الخنساء معاوية وصخر معا فنحن أسعد شعوب الأرض بأمهاتنا وأخواتنا اللواتي يغسلن قلوبهن قبل النوم من الضغائن العائلية الصغيرة ويبالغن في التنظيف والتطهر كطفل يتعلم امساك فرشاة أسنانه للمرة الاولى.

في السنوات الأخيرة وحين بدا الجبن يستوطن قلوب الرجال لم نجد غير فدوى وأخواتها يعاودن حمل الرايات ولأنها شاعرة تعرف تراث جداتها أعادت فدوى طوقان تحذير ذكور اليوم في ديوانها المتأخر "على قمة الدنيا وحيدا" وذكرتهم بأهزوجة هند بنت عتبة التي نظمتها للمتخاذلين والفارين من ساحة المعركة:

ان تقبلوا نعانق ونفرش النمارق

او تدبروا نفارق فراق غير وامق

لقد عاشت في قلوب الجميع وظلت وحيدة وذاك قدر كل كنعاني وكنعانية والفلسطيني يعرف ذلك بالفطرة، لذا اشارت فدوى في ذلك الديوان الى جملة تقطر حزنا ووحدة من قصة فلسطينية لغسان كنفاني قال فيها: اورثني يقيني بوحدتي المطلقة مزيدا من رغبتي في الدفاع عن حياتي دفاعا وحشيا. فهل نستغرب مع كل ذلك الحزن الفلسطيني ان يصرخ محمود درويش شاعر الجرح الفلسطيني: يا أنا....

فدوى الكنعانية بحضورها وغيابها زنبقة شعب صنع بصموده الاسطوري أعظم ملاحم العصر وكأن ذلك الصمود يتغذى من جبروت نساء رفضن البكاء ومن قصائد عاشقة أخرجتها من مدرستها وردة فغرست بتثقيفها الذاتي وارادتها الفولاذية مئات الحدائق.