ظاهرة صحية نحو «الإصلاح السياسي» المنشود!!

TT

ما لم يعرفه، وربما، لم يلاحظه كثيرون ان المملكة العربية السعودية تعيش الآن حالة جدل محتدم، لا تقتصر على المثقفين ورجال الدين فقط، وأن هذا الجدل الذي يتقابل فيه فريقان «الليبراليون» و«المحافظون» يتناول أموراً بالغة الدقة والأهمية وهي أمور لم تكن مثارة بهذه الطريقة وعلى هذا النحو قبل ان يلقي حادث الحادي عشر من سبتمبر (ايلول) حجراً كبيراً في البركة العالمية الراكدة.

عنوان الجدل المحتدم الآن، الذي على الاغلب ان كبار المسؤولين يشجعونه ويرعونه ويعتبرونه شرطاً أساسياً من شروط تحقيق الاصلاح السياسي المنشود، هو توبة الذين أفتوا لـ«الارهاب» ذات يوم ثم تراجعوا.. وهل أن من الضروري أن تقبل هذه التوبة أم أنهم يجب ان يحاكموا ويحاسبوا على ما كانوا قد اقترفوه بحق بلدهم ومجتمعهم وأيضاً بحق دينهم.

هناك من يقول، وهؤلاء هم الذين يـُوصفون بأنهم التيار «الليبرالي» في البلاد ويصفهم الطرف الاخر بأنهم «العلمانيون»، أن التوبة جاءت متأخرة وأن هكذا «توبة» لم تعد مفيدة ولا مجدية بعد ان وقعت الفأس على الرأس واكتشف السعوديون بأنفسهم الحقيقة الاجرامية لهذه المجموعات المتطرفة التي سفكت دماء الابرياء في الرياض وقتلت النساء والاطفال بدون ذنب ولا فرية.

وهناك من يقول إن الله سبحانه وتعالى يقبل توبة التائبين مهما فعلوا ومهما ارتكبوا من آثام وأنه غير جائز لا دينياً ولا عرفاً أن تغلق الابواب في وجوه الذين اكتشفوا أخطاءهم وخطاياهم ولو بعد حين، فالتراجع عن الخطأ فضيلة و«الله واسع المغفرة» ولقد قبل الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام توبة الذين حاربوه بالسيف والذين أبلوا بعد توبتهم في سبيل الله والدين الحنيف البلاء الحسن.

والحقيقة أن ما يمكن اعتباره «صحوة» جديدة تعيشها المملكة العربية السعودية لا تقتصر على مجرد الجدل المحتدم الآن، حول توبة الذين أفتوا ذات يوم لـ«الارهاب» ثم تراجعوا وندموا على ما أقترفوه ضد بلدهم وشعبهم ودينهم، بل تتعداه الى أمور باتت مطروحة في معظم الدول العربية، وإن ليس بحدة ووضوح ما يجري في السعودية، وتتمحور حول الديموقراطية ودور المرأة في المجتمعات وكيف بالامكان مواكبة التطورات العالمية المتلاحقة على كل الأصعدة وفي المجالات كافة.

تعود إرهاصات حالة الجدل هذه الى النصف الثاني من عقد السبعينات من القرن الماضي لكنها بقيت هادئة ومحصورة في أطر ضيقة نظراً لانشغال السعوديين بالقضايا العربية والاسلامية الملتهبة في فلسطين وأفغانستان ومناطق اخرى كثيرة ونظراً لأن تحديات القرن الحادي والعشرين لا في مجال «العولمة» ولا في مجال «الثورة البيولوجية» لم تكن قد وصلت بعد الى كل هذه المستويات من الخطورة .

كانت النظرة من الخارج الى المملكة العربية السعودية تقليدية وغير ثاقبة ولم تأخذ بعين الاعتبار تلك الاعداد الهائلة من الطلبة الذين أرسلوا في بعثات حكومية لتلقي العلم في أرقى وأهم الجامعات العالمية والذين كانت عودتهم بكفاءات مميزة في كافة المجالات أهم إنجاز تحققه دولة تنتسب الى نادي دول العالم الثالث التي وصفت بأنها نامية من قبيل تجميل الواقع المؤلم الذي تعيشه هذه الدول.

وبقيت النظرة من الخارج الى المملكة العربية السعودية غير ثاقبة لأنها لم تأخذ بعين الاعتبار تلك الطفرة التعليمية الهائلة التي شهدتها سنوات النصف الثاني من القرن الماضي وتلك التحولات الاجتماعية النوعية التي ترتبت على قفزة نوعية كان عنوانها مشاركة الامير سلطان بن سلمان في رحلة فضائية الى القمر ووصول الكهرباء والطرق المعبدة الى حتى أصغر المجتمعات الموغلة في صحارى الربع الخالي المنعزلة والبعيدة.

ربما أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) قد عجلت في انفجار حالة الجدل الراهن، الذي هو البيئة التي لا بد منها لـ«الاصلاح السياسي» المنشود، لكن مالا خلاف عليه ولا حوله، بالنسبة للذين تابعوا ويتباعون التفاعلات السعودية الداخلية، أن كل هذا الذي يجري الآن هو محصلة طبيعية وصحية للتحولات الاجتماعية المترتبة على الطفرة التعليمية الهائلة التي شهدتها سنوات النصف الثاني من القرن الماضي وعلى إنتقال المجتمع السعودي من مجتمع نمطي تقليدي ساكن الى مجتمع متفتح ونشط يلعب فيه الشباب العائدون من أرقى وأفضل الجامعات العالمية والمتخرجون من عشرات الجامعات السعودية الدور الأساسي في الاقتصاد والسياسة وفي التنمية الحضارية والثقافية والاجتماعية.

ولم يلحظ كثيرون أن الاعلام العربي المؤثر والفاعل بات بأغلبه بدءاً بنهايات سنوات القرن الماضي اعلام سعودي، والمسألة هنا لا تتوقف على مجرد الكفاءة المالية فهناك الكفاءات الاعلامية التي يشهد على رقيها زملاء مبدعون في مجالات الصحافة المكتوبة وفي مجالات الاعلام المسموع والمرئي وفي كل حقول الثقافة والفنون المختلفة.

إنه أمر طبيعي أن يحتدم الجدل حول المستجدات العالمية وحول القضايا الراهنة الملحة على هذا النحو وهذا دلالة صحة وعافية فالانفجارات الاجتماعية تأتي في العادة عندما يصل الاحتقان الى ذروته وعندما لا يستطيع أصحاب الآراء المختلفة التعبير عن آرائهم وعندما تغيب الدولة ولا يكون لها أي دور في التوجيه والإرشاد والمراقبة.

إنها «صحوة» طبيعية ومنطقية بعد كل هذه التحولات التي شهدتها السعودية في سنوات النصف الثاني من القرن العشرين والمهم هنا أن تأخذ حالة الجدل المحتدم الآن مداها برعاية الدولة وإرشادها ومراقبتها وأن لا يظن أي طرف من أطراف هذا الجدل أن بإمكانه فرض ما يريده في قفزة واحدة ، فالوصول الى الاصلاح المنشود يقتضي العقلانية والهدوء واتباع سياسة الخطوة ـ خطوة والرسول الكريم قال: «إن المـُنبتَّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى».

إن بعض الشباب المتحمسين يعتقدون أنه بالإمكان ارتقاء كل درجات السلم في قفزة واحدة وأن الفرصة سانحة وملائمة لإلحاق هزيمة نكراء بالذين يقفون على الطرف الآخر وهذا اعتقاد خاطئ والصحيح هو أن يأخذ هذا الجدل المحتدم مداه وأن يبقى بعيداً عن «فايروس» «الاستعراضية» الذي يصاب به بعض المثقفين في العادة وأن لا يحاول أي طرف من أطراف مبارزة وجهات النظر أن يرهب الطرف الآخر لا باستخدام سيف «التكفير» ولا باستخدام سلاح تهمة «الجمود والتحجر».

و«جادلهم بالتي هي أحسن «فتفاعل الآراء بالمنطق وبالحسنى هو الذي يجنب المجتمعات الهزات العنيفة التي عانت منها دول عربية كثيرة من بينها الجزائر والعراق، ولبنان ذات يوم، ولعل ما لا شك فيه أن غياب ظاهرة الجدل الهادف والبناء او خفوتها هو الذي جعل دعاة العنف والتطرف يستفردون ببعض الشباب ويغررون بهم ويقحمونهم في ارتكاب جرائم ضد وطنهم وأبناء شعبهم وتحت راية الدين الاسلامي الحنيف الذي هو من هؤلاء براء.

إن ما يجري في السعودية يجري مثله في دول عربية أخرى والفرق هنا أن القيادة السعودية تتخذ موقفاً إيجابياً إزاء حالة الجدل هذه وأنها ترفدها بإجراءات مشجعة في اتجاه تحقيق الإصلاح السياسي المنشود إن على صعيد مجلس الشورى ودور المرأة في المجتمع وإن على صعيد مناهج المدارس والجامعات وتخليص «الافتاء» من الحالة التي كان يعيشها في أوقات سابقة.

..مرة أخرى، لا خوف على الاطلاق من ظاهرة الجدل وتفاعل الآراء المحتدمة الآن في مجتمع شهد خلال سنوات نهايات القرن الماضي تغيرات كثيرة والمهم هو أن لا يحاول الذين يوصفون بأنهم «التيار الليبرالي» الاستعجال واختصار المسافات فعمليات التحول يجب أن تأخذ مدياتها العادية والطبيعية والاصلاح السياسي لا يمكن تحقيقه بقرار سياسي فوقي إنه تحولات اجتماعية متلاحقة تحتاج الى الوقت والرعاية والابتعاد عن الصخب وبخاصة صخب الشعارات ويحتاج خاصة في المراحل الأولى الى أن تكون الحكومة حاضرة مراقبةً وإرشاداً وتوجيهاً وتوعية.