اغضبوا : هذه حكاية لقائي مع رجل بغداد..!

TT

سأظل ممتناً للصديق والمناضل السياسي الاستاذ خالد عليوة، وزير التعليم الحالي بالمغرب، للتشجيع والمساندة اللذين خصني بهما حين التقينا في ربيع سنة 1991 بباريس، في إقامتي، وشرحت له ما في خاطري من رغبة للذهاب إلى العراق، الذي كان أوار الحرب فيه، إثر العدوان الأمريكي لما ينطفئ بعد، ومن أجل القيام بعمل صحافي يطلع المغاربة وغيرهم على الحرب ونتائجها. كانت جريدة «الاتحاد الاشتراكي»، جريدتي، ومديرها صديقا لي، والسيد عليوة له مذ ذاك نفوذ فيها، فتوافقت رغبتانا، وأظن أني في منتصف ابريل (نيسان) 1991، كنت بمركز الحدود البري (الرويشد) فجراً، وبعد المركز الحدودي العراقي (طريبيل)، لتمتد الطريق أزيد من ستمائة كلم لسانا طويلا بلا متعرجات حتى بغداد.

منذ أن حل صديقنا الشاعر الكبير حميد سعيد بالمغرب سنة 1975، مستشاراً ثقافياً للعراق، وبغداد صارت عشقاً ووطناً آخر للأدباء المغاربة، ومن الطريق الفجري يومئذ، وأنا أعبره للمرة الأولى، كنت أتلهف إلى الوصول مدركاً من خلال صور سابقة أني سأقابل أم أشاهد بغداد أخرى دمرها العدوان الأمريكي وفتك بأبنائها، ووجدتها، من عجب، صاخبة من محطة النقل العلاوي وأسواقها، وشيئاً فشيئاً رحت أفرك عينيّ لأرى، وأذنيّ لأصيخ السمع، فاتحاً ذراعيّ يطويني الحضن تلو الحضن.

كنت أول كاتب وحامل قلم صحافي يصل إلى العراق آنذاك، وبُعيد وقت وجيز من انحسار معارك طاحنة داخلية هدّدت سلطة الحكم المركزي، والطريق السيار من طريبيل إلى العاصمة، مزروع بأشلاء السيارات والعجلات، وبعلامات الدمار من كل نوع، حتى وسط بغداد، حيث المباني الحكومية مفككة الأوصال والجسور منهارة، وبرنامجي أنا أن أنقل لقرائنا في المغرب صور ووقائع الهول الكبير الذي حدث، وأن أقابل أيضاً كل المسؤولين الكبار في الدولة العراقية، وقد قابلتهم، فعلاً، كلهم، وحاورتهم في استجوابات مطوّلة نُشرت في أوانها في «الاتحاد الاشتراكي» ومنهم: طارق عزيز، طه ياسين رمضان، لطيف نصيف جاسم، مهدي صالح، سعدون حمادي، اضافة إلى أدباء ومثقفين مرموقين.

على أني ما قدّرت ولا دخل في حسابي أن أصبح مطلوباً لمقابلة لا طالباً لها، ومن طرف رئيس الجمهورية العراقية نفسه! كنت قد وصلت صباح ذلك اليوم إلى مقر وزارة الإعلام، الموجودة بالصالحية، وكان عندي موعد لمحاورة الوزير الذي تأخر لقائي به. لم يأخذ مني الوصول سوى دقائق قادماً من فندق المنصور المقابل من الجهة الأخرى للشارع، كانت معي بطاقة خاصة سمحت لي بالدخول من المدخل الرسمي. ولدهشتي وجدت الوزير ينتظرني في المدخل، وإلى جواره صديقي حميد سعيد، الذي رأس تحرير جريدة «الثورة» وقتها. قال الوزير ببعض الارتباك يخاطبني، ان السيد الرئيس يريد أن يراك، فأجبت ببساطة ولا مبالاة: «لكنني لم أطلب مقابلته»، ثم أضفت بثقة: «إنني كاتب وليس من عادتي أن ألتقي رؤساء الدول».

لا بأس، بعد ساعة وجدتني جالساً في قاعة الانتظار الرئاسية، وهندامي على ما أذكر لا بأس به. اقتادتني سيارة الوزير إلى مدخل القصر الجمهوري، ومنه إلى مبنى قريب، حيث أقلّتني سيارة أخرى فارهة نزلت منها عند بوابة كبرى وتركت فيها الوزير الذي شجعني على المضي نحو الهدف، قبل ذلك سألته لماذا أنا بالذات؟. فأجاب ان الرئيس لم يقابل أحداً قط بعد الحرب من الخارج، وهو معتز كثيراً بموقف جماهير المغرب العربي وقواه السياسية والمدنية من مساندتها للعراق ضد العدوان الأمريكي، فلعله يريد أن يشكرها من خلالك، من خلال مواطن كاتب بالذات. عشر دقائق أولى من الانتظار في قاعة فسيحة انتقلت بعدها إلى ردهة تنتهي بقاعة صغيرة فعلاً، وقد عبرت من بوابة إلكترونية، لا أحمل معي شيئاً، فالأوراق والأقلام موجودة بالداخل. في هذه القاعة وجدت الفريق حسين كامل، وزير التصنيع العسكري وصهر الرئيس جالساً، فتلهيت بتفحص هندامه وملامح وجهه عن قرب، وأنا أفكر في الكلام الذي سأقوله لهذا الذي بات ملء السمع والبصر وشاغل الناس في الدنيا، من أقوى الحكام إلى أبسط العوام، صدام حسين.

سمعت من يطلبني باسمي، فرفعت بصري في من سأعرف لاحقاً أنه السكرتير الشخصي للرئيس، عبد حمود، بشاربيه الكثّين الأسودين. تقدمني بخطوة هادئة تبعته بأخرى بإيقاعها إثر ممر صغير أفضى بدوره إلى حجرة متوسطة المساحة في جوفها أريكة قام من جلسته فوقها الرئيس صدام واقفاً يستقبل بحرارة ويصافح طويلاً، ويطلب القهوة مباشرة بعد الدعوة إلى الجلوس، وهو في غاية البشاشة، وأنت تعتذر مرتبكاً قليلاً، أو تتناول القهوة في رشفات متقطعة استجابة لدماثته. ويبادر فعلاً بتوجيه الشكر إلى المغاربة، وأبناء المغرب العربي عامة، ثم يتحدث بمنطق ونبرة من يريد لكلامه أن يخرج وراء جدران القاعة والقصر، شارحاً بعض أسباب دخول قواته إلى الكويت، ومرامي وحسابات الولايات المتحدة وحلفائها من ضرب العراق. ووجدتني، وقد بادلته الود بالود، والتحية بما يليق وأكثر، وليس بيننا لا بروتوكول، ولا تكلّف، من غير بهرجة، حتى اني أحسست في هنيهات أو كدت أنسى أني في حضرة رئيس دولة من طرازه ـ أقول وجدتني أتصدى لما نويت قوله، وينبغي لي، كيفما كان الحال، فسألته أولا عن مصير الكاتب والمفكر العراقي عزيز السيد جاسم، الذي اتهمته السلطات بالتدبير لما أسمته بحركة «الغوغاء»، من أبناء الجنوب، الذين تمردوا على الحكم مباشرة بعد الحرب.

ثم، حديث ومغزل، قلت له إن التضامن مع العراق، السيد الرئيس، لا يمكن أن يخفي نواقص معينة في قلبها مسألة الديمقراطية، ثم اضفت عبارات أخرى تشير إلى معاني التعددية والحريات والمؤسسات، ونحن نقول في المغرب، إن الحرّ يفهم بالغمزة. وقد فهمني «ربّ النخل»، كما مدحته الشاعرة الكويتية سعاد الصباح ذات مهرجان مربد، كل الفهم، وثنّى على كلامي قائلا إن مرحلة البناء هي ما يقتضي الوضع الراهن، وان الأعداء هم الذين يعرقلون ذلك زمنياً، ولعله سألني، بعد ذلك، عن بعض شخصيات المغرب، وعن هواي في ما أكتب، وإن كنت مرتاحاً في إقامتي، وعن رفقتي، وكأنه تلقى «تقريراً» عن عشقي لدجلة وعيون المها وسوالف نشرح في الوزيرية، وهذا بين تلطف وتأدب وفنجان قهوة واستكان شاي.. واضاف واضفت كلاماً من باب ما يظل قابعاً في المجالس التي هي أمانات.

ثم قام الرجل الرئيس وصافحني بحرارة الاستقبال في التوديع، وهو يوجه التحية لكل العرب. وغادرت القصر الجمهوري ليس في معصمي ساعة روليكس ولا جيوبي محشوة بآلاف الدولارات، ولا قلبي أو فكري ارتشى بأي توجيه أو هيبة مصطنعة، ولا أنا أتخلى عن إيماني الراسخ بأن الحزب الوحيد والحاكم الأوحد نقيض للديمقراطية.

في وقت آخر التقيت بخالد عليوة فدغدغني قائلا إن تحقيقي ومقابلاتي في العراق، خاصة مع الرئيس صدام حسين، حققت نجاحاً، وانني، على حد قوله، يمكن أن أنجح بسهولة في الحصول على مقعد بالبرلمان بسبب هذه الحملة إن رغبت في ذلك وفي الترشيح.. وكنت يا عزيزي خالد أفكر في الحصول على «مقعد» في قلب بغداد.. آه، هذا المغتصب والجريح كما نعلم.

* رئيس رابطة أدباء المغرب