السيد المستقبل

TT

برغم تضاؤل وانحسار الممارسة الديموقراطية في لبنان، وبرغم ما دخل الى الطبقة السياسية من رغو، لا يزال المشهد السياسي الوطني خارقا.

فهناك رئيسان سابقان يعيشان الحياة التي اختارها كل منهما. وعندما اتناول الغداء كل يوم جمعة عند الرئيس الياس الهراوي الاحظ ان البيت خال من الحرس. وعندما اجد الرئيس امين الجميل واصلا قبلي الى مجلس عزاء، الاحظ انه يقود سيارته بنفسه وحيدا كأي مواطن عادي مثلي.

وليس في السجون اللبنانية سوى سجين سياسي واحد هو الدكتور سمير جعجع. وليس في المنفى سوى سياسي واحد هو العماد ميشال عون. ويحق للمعارضة ان تطالب كل يوم بحريتها من دون ان تساق الى الاعدام. ومن دون ان تسمى كلابا شاردة او كلابا ضالة.

وقد صرفت نظري عن شاشات التلفزيون وصور صدام حسين في الحفرة، من اجل ان اتطلع الى مستقبل الامة وحسن المصير. من اجل ان احلم بأمة موحدة مثل اوروبا او الهند لا مثل الاتحاد السوفياتي السابق. وان احلم بأمة يتناوب رؤساؤها على الحكم ولا ينتقلون من 48 قصرا على حفرة وهم يتمسكون بالحكم. خلال 35 عاما من حكم صدام حسين عرفت اميركا ستة رؤساء، فازوا بالاقتراع وسقطوا بالاقتراع. وذهب كل واحد الى منزله من دون ان يتحول الى «رئيس ضرورة». فالفرد ليس ضرورة في حياة الامم ولا في مسيرة الشعوب. وسقط موحد المانيا واهم مستشار في تاريخها الحديث في فضيحة مالية ـ ولم يشتر جزيرة لزوجته بل تركها تؤلف كتب الطبخ. وشارل ديغول اعظم رجل في تاريخ فرنسا خرج بالاقتراع من دون ان يتوقف السير في اي قرية. وجون كينيدي قتل فكان لاميركا رئيس جديد بعد ساعة.

الرئيس العربي وحده يصر على مثل هذه النهاية. شعر كث وكهف بلا حمام. حكم بلا نهاية. وثورة يأخذها رجل واحد الى بيته ويتربع فوقها. وحزب تقدمي اشتراكي ينادي بالحرية، وضعت افكاره في جامعات ومقاهي باريس الخارجة من الحرب، يخطفه صدام حسين الى تكريت، ويجعل صورته على غلاف كل كتاب وفي صدر كل مؤتمر حزبي. وعلى كتب جميع الاطفال والتلاميذ الذين عليهم ان يبدأوا نهارهم بنشيد الولاء لصدام، لا للوطن.

الديموقراطية ليست النظام المثالي لكنها الحل الافضل لطبائع البشر وشهواتهم وغرائزهم ووحشياتهم. وما لم تحدد للانسان معايير المقبول وسنن المعقول فسوف يظل ماضيا في طريقه الى ان يصل الى حفرة لا علاقة لها بالحياة ولا بالكرامة ولا حتى بسطح الارض. وما لم تذكر الزعيم بأن الله وحده احد فسوف لن يتذكر. وسوف يرمي كل من يعارضه بتهم الكفر والخيانة ويرسل اليه من يقتله ومن ثم يرمي جثته على باب بيته لكي تراها زوجته ويراها اولاده ويعلق في ذاكرتهم الى الابد ان العزة الرئاسية لا تطال. 35 عاما من حكم صدام حسين، فقير العوجة الذي لف نفسه ودثر عائلته بأغنى مظاهر الارض. ولكن هذا كله ماض. ومحاكمات صدام حسين ماض. فهي كما قال الزميل الكويتي جابر الهاجري «لن ترد اسيرا ولن تحيي جثمانا». وصورة صدام حسين مستسلما، ماض هي ايضا. دعونا لا نكرر التجربة في اي مكان. اتركوا هذه الشعوب تقوم الى حريتها ويقظتها وحقوقها وواجباتها. وعلموها ان تكف عن التظاهر في سبيل الاستبداد والقمع والقهر. ولا تكرروا تجربة ترئيس عدي صدام حسين على الصحافة من دون ان تزودوه، على الاقل، بمخرج فني يملك شيئا من الذوق. ولا تجعلوا مصير العراق، كل العراق، في يد ثلاثة رابعهم حسين كامل المجيد. فالحزب هو كل الحزب، والدولة هي كل الدولة. والوطن هو كل الناس وكل الارض. والاحتلال خارج غدا او بعد غد. لكن خروجه لن يعني شيئا اذا لم يدخل مكانه المستقبل.