سفر المحبة

TT

كثيرا ما يسألونني عن سر تعلقي بالتاريخ ولماذا يتقطر التراث من جبيني وتحبو حولي الاسطورة..

وأحار ماذا اقول عن التكوين الفكري والمعرفي الذي يحتاج لشروحات عسيرة ثم يسعفني المكان، فأستسهل الاجابة وأدلهم على طفولة الفتى الذي نشأ في مكان عجيب شمال سورية حيث حراف التي عبرها ابراهيم خليل الله في طريقه الى ارض كنعان على بعد امتار من قرية سرمدا التي ولدت فيها واليها يعود الفضل في تشربي لروح الاسطورة وابنها الشرعي التاريخ فقد ترعرعت في بلدة بينها وبين المعرة قرية جاري ابو العلاء المعري كالمسافة بينها وبين حران رمية حجر.

وبكل اسف، فحران الآن داخل الحدود التركية ولا نراها بعد ان ضاعت مع اراضي لواء الاسكندرون الا بالتشاوف وكذلك الحال مع جبل "آرارات" الذي رسا على قمته قارب نوح عليه السلام بعد الطوفان وفي الدائرة ذاتها انطاكية التي تحمل قبل تاريخ بيزنطة ارث الكنيسة التي تدين برسوخ لاهوتها الى ذلك المكان.

نعم هناك نصف الجواب فقد حبوت بين مغارات حثية وابراج رومانية وأعمدة بيزنطية في تلك الثغور التي تصارعت عليها جميع الحضارات ورحلت وظل ذلك المكان الخصب (المحظوظ والمنحوس معا) مشعا بروحه التي لم يمسسها سوء.

وحين انتقلت الى حلب للدراسة الثانوية وجدت ايضا نفسي في مدرسة الكواكبي على قمة جبل الجوشن الذي كان يسامر عند سفوحه سيف الدولة المتنبي فلما هربت منها الى مدرسة هنانو صرت قرب قلعة حلب التي شهدت آخر تجليات السهروردي، وليكتمل العقد كانت جامعتي في الاسكندرية بالشاطبي امام مكتبة الاسكندرية.

وبهذه المعاني كلها ما كان التاريخ وشخصياته واساطيره بالنسبة لي كلمات في كتب، بل جزءا حيا من الواقع المعيش ونسيج المكان وروحه القادرة على التناسل والانتقال من جيل الى جيل حتى وان لم يتم تسطيرها في كتب واسفار.

ولأني كالمتصوفة عاشق للحركة التي تحرر النفس من الخوف كثرت اسفاري وتنقلاتي ورحلاتي الروحية والجغرافية وما كنت انظر الى الاخيرة كسياحة وعمل، فسفر المعرفة وردة محبة للبلاد والعباد ترحل فيها الروح بحثا عن الجذور الاولى والهيولى.

ان الاضافة التي تميز هذه الرؤية الشخصية المتشعبة تتلخص في اني كنت ارى المدن من خلال قصص الحب واشعاره والرومانسية ووثائقها اكثر مما انظر اليها لاكتشفها واقرأ روحها في وقائع الحروب والكراهية، فالسفر كما لا زلت احسه كالضياء فعل محبة يشرق داخل النفس لينير الزوايا المعتمة وبذا تتلاقى وتتلاقح في لحظة ما في مكان ما مشاهد البصر مع تجليات البصيرة.

[email protected]