أبو شوارب وأبو المدفع

TT

الشيء الوحيد الذي اتذكره من دراستي في كلية الحقوق كان ما ألقاه علينا الاستاذ جبرائيل بنا عن القتل الخطأ. قال اذا خرج صياد ورأى على نخلة ما حسبه عصفورا واطلق النار عليه، ثم تبين ان ذلك العصفور كان رجلا يحوش التمر من النخلة. فسقط الرجل ميتا على زوجته ام جاسم التي كانت تنتظره في اسفل النخلة فماتت في الحال. فما هي مسؤولية الصياد عن مقتل المسكينة ام جاسم؟

ضحكنا على هذا المثال. فكيف يتصور اي انسان عاقل عصفورا بأنه رجل؟ واذا كان بالفعل عصفورا فأي صياد احمق يضيع ثمن رصاصة على عصفور ليس فيه اكثر من قضمة لحم واحدة؟ ثم هذا الرجل الذي لا يجد شيئا يسقط عليه غير زوجته فيقتلها. يمكنني ان اتصور اي مواطن عراقي يقتل زوجته لأنها لم تضع ما يكفي من الثوم في الباميا او جاءتها العادة في ليلة العيد. اما ان يسقط عليها من نخلة ويقتلها فهو شيء لم اقرأ عنه في كل تاريخ المدنية العراقية.

اتذكر انني ضحكت على هذا المثل الذي ساقه استاذي جبرائيل البنا رحمه الله. ولكن الجنود الامريكان قاموا قبل ايام بما هو اكثر مدعاة للضحك، ولكنه ضحك كالبكاء، بل هو البكاء، رأوا عند الفجر عددا من الشرطة العراقية في كامل بزتهم الرسمية في طريقهم للالتحاق بعملهم فأطلقوا الرصاص عليهم. قتلوا منهم ثلاثة وجرحوا آخرين. ظنا منهم بأنهم كانوا ارهابيين في طريقهم لعملية انتحارية. هذا في رأيي اسوأ واغرب مما وقع فيه ذلك الصياد. المزعج، بل والمخيف في الامر ان مثل هذه الحوادث اصبحت تتكرر على يد الجنود الامريكان الى الحد الذي جعل الجنود الانجليز يتربصون بهم اكثر مما يتربصون بالإرهابيين. ففي حرب الكويت قتل من الانجليز بنار حلفائهم الامريكان اكثر مما قتل بنيران الجيش العراقي. يسمون هذه الحوادث بنيران الصداقة Friendly Fire اذا كان هذا ما يجنيه الانسان من الصداقة فلا خير في هذه الصداقة ولا في الصديق. ولكن هذه طريقة الانجليز في تحلية الحبة المرة. ما كان يسميه جبرائيل البنا بالقتل الخطأ يصبح عندهم قتل صداقة.

ولكن هذه الصداقة التي اردت بحياة ثلاثة عراقيين ابرياء تكررت. لماذا يقع الجنود الامريكان بهذه الحوادث؟ الا يفحصون اعينهم ونظرهم عند تجنيدهم؟ ام يا ترى اصبح استثناء العميان من الخدمة في الجيش خرقا لحقوق الانسان وانتهاكا لكرامة العميان؟ لكنني وجدت تفسيرا آخر، الجنود الامريكان متأثرون بثقافة الافلام الامريكية. وفي هوليود يجعلون الاوغاد، الحرامية والقتلة ومن يغررون بالنساء البريئات رجالا مشوربين بشوارب قوية منمقة. ولما كان العراقيون يعتزون دائما بشواربهم، فحالما يرى الجنود الامريكان عراقيا ابو شوارب في الشارع يتصورونه في طريقه لسرقة بنك او اغتصاب امرأة او الهجوم على مزرعة ابقار. هذا تراثهم ولنا تراثنا. الشوارب عندهم خبث وعندنا شرف.

هذه نقطة تتطلب تثقيف جنودهم بالصور كما كنا نفعل في المدرسة. هذا ارنب. وهذا ثعلب. وهذا عراقي ابو شوارب. وهذه عراقية لابسة عباية ـ وهكذا. ومن يدري، ربما يأتي يوم يجتمع فيه بول بريمر بالصحافيين والمتضررين والمصابين ويرفع يده ويشير فيقول هذا تقرير التحقيق الذي اجريناه، وهذا مبلغ التعويض الذي سندفعه، وهذا القرار بمعاقبة الجندي المسؤول. من يدري ربما يأتي مثل هذا اليوم.