«اللاسامية الجديدة».. من العلمنة إلى العولمة

TT

اسرائيل تطرح الصوت عاليا عبر مسؤوليها واعلامييها معا: «اللاسامية الجديدة» تعم أوروبا وتزداد تجذرا في الولايات المتحدة وتنتعش في المجتمعات الاسلامية.

وفي الآونة الاخيرة، بلغ الهاجس الاسرائيلي من «اللاسامية الجديدة» حد تحذير شيمون بيريس، زعيم حزب العمال، من «سيطرة» المسلمين على القارة الاوروبية باكملها.

«اللاسامية» ظاهرة قديمة عمرها من عمر الوجود اليهودي في ما يسميه اليهود بدول «الشتات». الا ان المقلق لاسرائيل في ما تعتبره بعثا جديدا للاسامية هو البعد العلماني المستجد على هذه الظاهرة فبعد أن كانت حوافز المشاعر اللاسامية في المجتمعات الغربية دينية في خلفيتها «نتيجة اعتبار اليهود قتلة السيد المسيح»، وبالتالي محلية أو داخلية فحسب، تنطلق حوافزها اليوم من خلفية سياسية تغذيها الصور اليومية لعمليات القمع الاسرائيلية للانتفاضة الفلسطينية لتتحول «اللاسامية الجديدة» الى مشاعر عدائية لاسرائيل، والى مشاعر تتنامى بوتيرة توحي بانها دخلت مرحلة العولمة.

إذا صحت مقولة ان السبب الرئسي للطلاق هو الزواج فقد يكون الاصح منها مقولة ان المحرك الاول لمشاعر اللاسامية هم اليهود لا الآخرون، فاللاسامية الاوروبية كانت، الى مدى كبير، ردة فعل اجتماعية لا تخلو من تحييز ديني، على نزعة الجاليات اليهودية للتقوقع داخل ما صار يعرف «بالغيتو»، تجنبا للاندماج في مجتمعاتها المسيحية.

وإذا كان يهود أوروبا نجحوا في توظيف اللاسامية عاملا دينيا لمطالبة الحركة الصهيونية «بدولة ـ ملجأ» على أرض فلسطين، فإن المفارقة اللافتة في هذا السياق أن تصبح الدولة، في ما بعد، منطلق ما يسميه الاسرائيليون بـ«اللاسامية الجديدة».

بمفهومها التقليدي،اللاسامية تسمية مجازية لحصيلة تجربة التعايش المسيحي ـ اليهودي الفاشلة في أوروبا في القرن التاسع عشر. وأي محاولة لسحب هذه التسمية على تعامل العرب مع جالياتهم اليهودية، لغاية قيام اسرائيل، هي محاولة ابتزازية لجانبين:

ـ الاوروبي.. عبر إثارة عقدة الذنب من «الهولوكوست».

ـ والعربي.. عبر تصوير النضال الاستقلالي الفلسطيني بانه ردة دينية ـ انفعالية على اليهود وليس كفاحا قوميا.

ولكن، قبل أن تلوم الاخرين على تنامي اللاسامية السياسية في العالم، كان الاجدر بالمؤسسة الحاكمة في اسرائيل، ان تراجع سجل حكمها الذي حول عام 2003 الى أسوأ عام عرفته دولتهم:

ـ سياسيا حلت اسرائيل بجدارة على لائحة الدول الاكثر تهديدا للسلام العالمي

ـ قضائيا أحيل موضوع جدار الفصل الذي تصر على بنائه إلى محكمة العدل في لاهاي

ـ أمنيا عاشت حالة استنفار دائم بسبب ضربات الانتفاضة والخوف من العمليات الانتحارية

اقتصاديا ناءت بحمل أعباء الانتفاضة ومعدلات البطالة المرتفعة

ـ معنويا شهدت ردات ضميرية فشلت في كبتها من قبل العديد من ضباط الجيش حيال ممارساتها القمعية العشوائية للانتفاضة الفلسطينية تكللت باتفاق الرؤساء السابقين والرئيس الحالي لجهاز «شين بيت» الاستخباراتي على الاعلان بان لا مجال لكسب الحرب على الفلسطينيين عسكريا.

ولكن ميزة اللاسامية الجديدة لا تقتصر على انعتاقها من جذورها الدينية المسيحية فحسب بل على تحولها، داخل التيارات المناهضة للنفوذ الاحادي الدولي وللعولمة الاقتصادية، الى قناعة سياسية متنامية بوجود شكل من اشكال التوأمة الاستراتيجية بين اسرائيل والولايات المتحدة. والملاحظ انه بقدر ما تتطابق الاستراتيجيتان الاميركية والاسرائيلية في العالم ـ وخصوصا في الشرق الاوسط ـ بقدر ما تكتسب هذه النظرية المزيد من المقتنعين بمنطقها، فقد اصبحت الصهيونية، في نظر العديدين في الغرب، أداة لهيمنة ثنائية أميركية ـ اسرائيلية على الشرق الاوسط بلغ التطابق في اهدافها حد إقدام الولايات المتحدة على خوض حروب اسرائيل في المنطقة بعد أن كانت اسرائيل تخوض حروب الولايات المتحدة فيها.

قد يكون الحديث عن تطابق دبلوماسي واستراتيجي كامل بين الولايات المتحدة واسرائيل في الشرق الاوسط سابقا لآوانه، حتى في عهد ادارة جورج بوش. ولكن ما لم يلمسه صقور الجمهوريين في واشنطن بعد هو أن المردود السلبي لعولمة اللاسامية العلمانية تتحمله الآن الولايات المتحدة أكثر مما تتحمله اسرائيل. وفي هذا السياق، قد لا يكون مستبعدا أن تصبح الديمقراطية التي تطرحها واشنطن نظاما مستقبليا لدول الشرق الاوسط.. الضحية الاولى لهذه العولمة.