ليس بقوة السلاح وحدها تبنى الأمم

TT

أول ما فاجأني في بريطانيا عندما تعرفت اليها عام 1978 ان الشرطة فيها غير مسلحة. وبما انني لبناني آت من بلد يعد فيه «السلاح زينة الرجال» استغربت ظاهرة «التخلف» هذه، ولا سيما أن أفلام الكاوبوي الأميركية زكّت اقتناعنا الدائم بأننا معشر اللبنانيين على حق، وان أهل السويد وسويسرا على خطأ.

ولكن سقوط 200 الف قتيل في الحرب الأهلية اللبنانية وسوء استخدام أكداس الأسلحة العربية في جولات الحروب مع اسرائيل، ناهيك من تذكر ما قاله ابو الطيب المتنبي عن: «ان السلاح جميع الناس تحمله... وليس كل ذوات المخلب السبع»، نبهتني الى حقيقة مهمة.

فالسلاح وحده لا يحمي ولا يحسم جدلاً ولا يبني حضارة. وما لم يكن هناك وعي وصدق والتزام ومبادئ، تتحول الأوطان الى ميليشيات أو مافيات. وأميركا نفسها، ترسانة العالم الكبرى، بخلاف زعم الفولكلور «العسكريتاري» لم يصنعها مسدس «الكولت 45» ولا بندقية «الوينشستر» فحسب، ولا أظن انها في الآتي من الأيام ستحميها خيمة «حرب النجوم» وما يتفرع عنها من أبناء وبنات.

فأميركا، قبل ان يولد وزير الأمن الوطني المستر توم ريدج ورئيسه جورج ووكر بوش، صنعتها عقول وضمائر ومواهب وثقافة منفتحة قابلة للهضم وتسامح مع الاختلاف وتقدير للعصامية.

صنعها احترام العمل الشريف والابداع الفني الحر والايمان النزيه بحقوق الانسان كما بلوره الرئيس وودرو ويلسون وحاول اقناع قادة القوى الأوروبية الاستعمارية به في نهاية الحرب العالمية الأولى فكان نصيبه منهم السخرية. ألم يقل رئيس وزراء فرنسا جورج كليمنصو يومذاك انه تعذر على البشر تطبيق الوصايا العشر التي اعطاه الله لموسى، فهل يتصور ويلسون ان نقاطه الـ15 قابلة للتطبيق؟

ريدج مع الأسف يؤمن بأن السلاح أكثر ضمانة من التفهم والتفاهم، ولذا اختارت وزارته ـ ومن ثم ادارة رئيسه بوش الوثيقة الصلة بـ«لوبي السلاح» ـ ان تفرض على دول العالم زرع حرس مسلحين في طائرات الركاب المتجهة الى الولايات المتحدة.

أكيد من حق ريدج ان يحرص على سلامة بلده وأمنه، بل هذا في صميم واجباته وواجبات أي مواطن أميركي عادي، الا ان ما يحفز على التساؤل هو هل في مثل هذا الاجراء ضمانة أكيدة للأمن؟ وهل تكفي مثل هذه الاجراءات لحماية المواطن الأميركي، وبخاصة خارج اميركا؟ وهل عمليات التنسيق الاستخباري كفيلة وحدها بقطع الطريق على التعديات، أم ان بين الأمور، المفيد التنبه اليها، تحسين صورة أميركا عند شعوب العالم بموجب التفاعل الانساني الحضاري لا عبر عرض العضلات العسكرية وحملات الدعاية المنظمة؟

لقد جاء أول رد فعل سلبي على «أمر» المستر ريدج وادارته من نقابة الطيارين البريطانيين، وليس من «اتحاد الارهابيين الدولي»، وذلك لأن الطيار البريطاني عاش في بلد يلجأ فيه الشرطي الى الحوار المهذب والتفاوض الهادئ قبل ان يهاتف قوة دعم مخولة حمل الأسلحة النارية، كما انه يشعر ان خطر تحويل الطائرات المدنية الى نسخ نقالة لساحة دودج سيتي في افلام الكاوبوي قد يكون أكثر احتمالاً من أي سيناريو مكرّر لهجمات 11 سبتمبر (ايلول) 2001.

قد يقول قائل ان ولع الأميركيين بالسلاح موغل في القدم، وربما يذكرّنا آخر باعتبار الممثل العالمي اليميني تشارلتون هيستون، أشهر أبواق «رابطة البنادق الوطنية» (أكبر لوبي أسلحة فردية في العالم)، بأن حمل السلاح حق دستوري مقدس في اميركا.. والكلام في الحالتين صحيح.

غير ان ثمة بعداً جديداً لتعليمات المستر ريدج. فما قرّرته واشنطن وفرضته فرضاً على دول العالم في الأسبوع الماضي، متكاملا مع نهجها العام القائم على الفرض والاملاء، ممارسة سبقتها اليها دولة واحدة فقط قامت فلسفتها الأمنية على مبدأ «الضربة الاستباقية» وبررّت وجودها به هي اسرائيل.

اسرائيل هي اليوم «معلم» أميركا في مجالات لم يسبق للأميركيين رغم طول باعهم العسكري ان نبغوا فيها، بينها النسف والجرف والاعتقال بلا محاكمة والتعذيب لاستخلاص المعلومات... وكلها طبقها الاسرائيليون في كل الاراضي التي احتلوها. وما هو معروف ان رحلات طائرات شركة «العال» محمية بحرس مسلح بثياب مدنية منذ زمن بعيد، ووحدها اسرائيل في منطقة الشرق الأوسط تحتكر الاسلحة النووية، ومع هذا ما عاد المواطن الاسرائيلي آمناً لا داخل اسرائيل ولا في اي دولة من دول الجوار.

وبالتالي، فان استيراد ريدج أحدث ما توصلت اليه الخبرة الاسرائيلية في «سيكولوجية» مواجهة العدو بالقمع والترويع لن يضمن تلقائياً أمن الأميركيين، ولا سيما عندما يصرّ «صقور» الحزب الجمهوري على جعل العالم كله ساحة حرب صغيرة ضد «الارهاب». والأسوأ من هذا ان هذا التحمس الأميركي الغريب للقضاء على الاعراض وإهمال أصل الداء سيفقدهم تعاطف كثيرين في مختلف دول العالم ـ ومعظمها دول صديقة ـ ما زالوا غير مقتنعين بأن كل أزمات الجنس البشري تحل بلغة السلاح.

عودة الى بريطانيا، فإن سمعة الحكومة البريطانية الحالية ليست افضل بكثير من سمعة ادارة بوش في الاوساط العربية والمسلمة. ولكن الحكمة والمرونة اللتين ميزتا اداء قوات الاحتلال البريطاني في جنوب العراق اعطتا ـ مع الاقرار بعمق السخط الشيعي على الحكم السابق ـ نتائج اقل مأساوية من «عنتريات» قوات المستر بريمر والجنرال ابي زيد.

كما انني ازعم ان الاضطراب الفظيع الذي نشهده اليوم في حركة النقل الجوي سيخلف آثاراً اقتصادية ونفسية سلبية ربما كانت قريبة الى حد بعيد من الهدف المعلن لاسامة بن لادن بعد احداث 11 سبتمبر.