كل شيء يهون من أجل انتخاب الرئيس

TT

خطاب «هرتسليا»... هذا هو الوصف الذي أطلقته الصحافة الاسرائيلية على خطاب ارييل شارون، الذي اعلن فيه بنود خطته للحل من جانب واحد، والعمل لفك الارتباط مع الفلسطينيين.

فوراً... جاء رد الفعل الأميركي يعلن رفض الإدارة الأميركية لدعم أي حل يأتي من جانب واحد. لكن هذا الموقف لم يعمّر سوى ساعات قليلة، اذ بعد يوم واحد فقط عادت الادارة الأميركية واعلنت تأييدها للخطة لما تتضمنه من ايجابيات. ما الذي يدفع الادارة الأميركية لهذا التناقض في المواقف؟ الموقف الأميركي الأول هو الموقف الرسمي والفعلي للادارة، وهو الموقف الذي يقوم على قاعدة ضرورة التفاوض الاسرائيلي ـ الفلسطيني والوصول الى حل مشترك متفق عليه، وهو الموقف الذي دفع الادارة الأميركية الى شن حملة دبلوماسية ضارية، يوم فكر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ان يعلن الدولة الفلسطينية من طرف واحد بعد فشل مفاوضات قمة كمب ديفيد الثانية في شهر تموز (يوليو) من العام 2000. لقد قام عرفات في ذلك الحين بجولة عالمية لكسب التأييد لفكرته، ولكنه كان يجد الاتصالات الأميركية قد سبقته، تقنع تلك الدولة، أو تضغط عليها، او تهددها، لكي تنصح عرفات بالتروي وعدم الاقدام على تنفيذ فكرته. وانسجاماً مع هذا الموقف التقليدي صدر التعليق الأميركي الأول على خطة شارون المنفردة يعلن معارضته لها. أما الموقف الأميركي الطارئ الجديد، الموقف الذي يقبل الحلول من طرف واحد ويجد فيها ايجابيات تستحق الاشادة، فتحركه دوافع أخرى تلخصها جملة واحدة هي «الانتخابات الرئاسية الأميركية»، التي ستتم في الربع الاخير من العام الجديد، الذي بدأ يخط ايامه الأولى. كل شيء في البيت الأبيض يتم الآن صوغه بما يناسب هذه الجملة، الاقوال والتصريحات، واكتشاف الليبي المطيع، والتعاون السلمي مع الزلازل في ايران، وخفض أسعار الدولار نكاية بأوروبا، وشكل الاحتفال بعيد رأس السنة في ساحة نيويورك الرئيسية، كلها مواقف مدروسة، يجري صوغها بما يناسب هدف الرئيس بالفوز في الانتخابات المقبلة. وفيما يخص شارون وخطته الأحادية، فقد تبين لمنظمي الحملة الانتخابية، أن الموقف الأميركي الرسمي الرافض لسياسة الانفراد لا يخدم مصالح الرئيس، فهو موقف مواجهة بين واشنطن واسرائيل، يغضب الناخب اليهودي كما يغضب الناخب المسيحي المتصهين، والطرفان يشكلان مصدر قوة مالية وانتخابية لا يجوز تجاهلهما، ولا بأس من أجل ذلك من تغيير سياسة الدولة العظمى وتطويعها كلها لمصالح الرئيس الانتخابية، فما هو صالح لجورج بوش صالح لأميركا، وما هو صالح لأميركا صالح للعالم، سلما كان الأمر أم حربا، ومن خلال حلول متفق عليها أم من خلال حلول منفردة.

هل سيستفيد ارييل شارون من هذا الموقف الأميركي؟ سيستفيد من دون شك، لولا ان ورطته الداخلية أكبر بكثير من موقف أميركي كهذا. فاليمين غاضب على شارون لأنه يفكر بالتنازل عن بعض مستوطنات عشوائية غير مأهولة، واليسار غاضب على شارون لأنه لا يملك خطة من أجل السلام، والجمهور غاضب على شارون لأنه يطلق يد وزير ماليته بنيامين نتنياهو في صياغة ميزانية تترك فقراء اسرائيل وعائلاتهم وأولادهم من دون عون اجتماعي، والمفكرون والاستراتيجيون وصناع الرأي العام غاضبون بدورهم لأنهم يرون المشروع الصهيوني يتهاوى على يدي شارون. وأمام حالة الغضب الواسع هذه لن يستطيع موقف أميركي تكتيكي واحد أن يخرج شارون من ورطته، او ان يغير من حالة الاضطراب التي يعيشها المجتمع الاسرائيلي، وهو يردد بينه وبين نفسه: لقد جربنا كل الوسائل مع الفلسطينيين والعرب والنتيجة لا شيء، لقد امتلكنا القنبلة النووية ولم نحصل على الأمن، ولقد دمرنا الفلسطينيين تدميراً يكاد يكون «فردياً» ولم نحصل منهم على ما نريد، وبنينا جداراً فاصلاً لم يستطع منع العمليات الفدائية، فهل ثمة مخرج من هذا الوضع؟ وازاء هذه الاسئلة المصيرية والوجودية، بدأ شارون يفكر بدعوة مبكرة للانتخابات، لعل نتائجها تقدم له حلاً سحرياً ما يكون مختبئاً في احدى الزوايا.

ونكاد نجد على الجانب الآخر، الجانب الفلسطيني والعربي صورة مماثلة، فالعرب يتلقون الضربات الأميركية بصورة يومية. احتلال في العراق. وضغط على السعودية. وتهديد لسوريا. وتغلغل مخز في ليبيا. وحلول مصيرية مفروضة في السودان. وابعاد متعمد لمصر عن المشاركة في السياسة العربية. وبعد ذلك كله لا يحس الأميركيون أنهم مرتاحون في المنطقة، ولا يشعرون أنهم قادرون على استثمار نفوذهم بالطريقة التي ينشدونها، إنما يشعرون اكثر بالكراهية تحيط بهم من كل جانب، والغريب انهم يتساءلون دائماً لماذا؟ وهم يواصلون العمل في المنطقة، لا من أجل ايجاد حلول لمشاكلها، انما من أجل «تحرك» يفيد في خدمة مصالح الرئيس الانتخابية، ويتبدى ذلك بشكل واضح في نموذجي العراق وفلسطين.

في العراق اكتشف المنظمون لحملة الرئيس الانتخابية،ان تواصل المقاومة العراقية المسلحة، واستمرار وصول النعوش الأميركية الى واشنطن، سيؤثر على فرص الرئيس بالفوز. ولذلك تمت وبسرعة عملية تغيير للأهداف، وجرى رفع شعار تسليم السلطة للعراقيين في موعد يقع في منتصف العام الحالي، وقبل اشهر قليلة فقط من موعد الانتخابات، من أجل القول للناخب الأميركي بأن سياسة الرئيس تحقق النجاح في العراق.

وفي فلسطين يجري العمل بدأب من أجل «تحريك» الوضع والوصول الى سلسلة من المواقف المتبادلة، مواقف يمارسها الجانب الفلسطيني ومواقف أخرى يمارسها الجانب الإسرائيلي، لا من أجل الاتفاق، انما من أجل مناخ من التهدئة، يمكن معه القول ان سياسة الرئيس تحقق النجاح في القضية الفلسطينية. ولا بأس ان نذكر في هذا السياق بعض الامثلة:

ـ تنشر في الصحف الفلسطينية منذ فترة، اعلانات مدفوعة الأجر تروج لوثيقة جنيف، «وثيقة ياسر عبد ربه ـ يوسي بيلين»، كنموذج لصيغة حل يمكن التوصل اليها بين الفلسطينيين والاسرائيليين، ويتم الصرف على هذه الاعلانات من منح مالية غربية ضخمة «15 مليون دولار»، تم تقديمها لهذا الهدف بالذات، ويكثر رعاة هذا الاتفاق من نشر الإعلانات لأنهم يخشون القيام بعمليات ترويج جماهيرية كالمهرجانات، او كتوزيع الوثيقة على المنازل او في داخل المخيمات، لأنهم يخشون من غضب الشارع الفلسطيني على اتفاقهم. ويتم الصرف السخي من هذه الاموال بينما يفتقد كل منزل فلسطيني ما يكفي لسد الرمق في زمن الحصار الصعب هذا.

ـ يوجد لدى منظمة اليونيسكو أجندة متنوعة المواضيع تتعلق كلها بالعمل في اطار الموضوع الفلسطيني، ولكن تطبيق هذه الأجندة يحتاج الى اذن «ضوء أخضر» من قبل الرئاسة، ويتباطأ صدور هذا الاذن من دون توضيح، ثم يصدر فجأة إذن واحد، يتيح فرصة للقاء بين الاعلاميين الاسرائيليين والاعلاميين الفلسطينيين، ويتم اللقاء في منتصف ديسمبر 2003. لماذا هذا النشاط من دون سواه من النشاطات؟ لا أحد يدري.

ـ أعلنت الولايات المتحدة حركة «حماس» حركة ارهابية، وجمدت ارصدتها المالية في بنوكها، وضغطت على العرب جميعا لكي لا يتبرعوا لمؤسساتها الخيرية التي تدعم أبناء الأسرى وأبناء الشهداء. وفجأة يصل الى غزة «ستيف كوهن» عضو مجلس العلاقات الخارجية الأميركية، وهو من هو في عالم المفاوضات السرية منذ أيام السادات، ويعقد مفاوضات مع قادة حركة «حماس»، ويقترح عليهم مساومة بين وقف الاجتياحات والاغتيالات الاسرائيلية، مقابل رفع اسمها عن قائمة الارهاب ورفع التجميد عن أرصدتها المالية.

ما الذي تهدف اليه هذه النشاطات؟ الحركة، والحركة فقط، والوصول الى حالة من التهدئة المؤقتة، الى حين إجراء انتخابات الرئاسة، حتى يبدو الرئيس اثناءها ناجحا في سياسته الخارجية. أما الحلول الدائمة، وأما السياسات الناجحة، وأما دماء الشعوب ومآسيها، فلا بأس أن تنتظر كلها حتى ينجح الرئيس.... عاماً آخر.