فلسفة النجاح والفشل

TT

دخلت المستشفى يوماً سيدة في عمر العشرين من أجل كتلة في الثدي فودعت المستشفى ملفوفة في كفن. وروى لي من أعرف قصة ما جرى لوالدته التي أدخلت المستشفى في بلد عربي. دخلت المسكينة المستشفى بقدمها لارتفاع السكر عندها وحملت في اليوم التالي جثة إلى المقبرة وعمرها 42 سنة.

وكما يقول «مالك بن نبي» إن حظوظ الإنسان في الدنيا متعلقة بالمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان. فمن ولد في بلد ثوري كان عليه دخول السجن في حياته والموت بأتفه اختلاط. وهنا تعمل الطبيعة اكثر من العناية الطبية.

وبالمقابل ففي البلاد التي تعيش العصر يختلف فيها الوضع. وعندما دخل السيد رياض أستاذ الجامعة إلى غرفتي أثارتني معلوماته عن الحشرات، فطلبت منه إطلاعي على عالم البعوض. فأحضر لي الرجل شرائح لقراءتها تحت المجهر. وأنا منذ زمن بعيد أمني النفس باقتناء مجهر أدرس فيه العالم السفلي وتلسكوب أقرأ فيه عالم النجوم العلوي. ولم يكن أستاذ الجامعة يتصور أن بينه وبين الموت أيام؟ فدخل غرفة العمليات لسبب تافه وكان المقرر أن تجرى له عملية منظار للركبة ففارق الحياة قبل أن يلمسه مبضع الجراح.

فهذه قصص من الواقع الطبي تروي يوميات الأطباء.

مع هذا فالفشل في أية عملية جراحية عند المريض هو قدر الجراحة والجراحين ولو في أكثر بلاد العالم تقدما. وهناك نسبة فشل في أية عملية مهما صغرت. عرفها من عرفها وجهلها من جهلها. وهناك نسبة فشل مقررة في كل كتب الطب لكل أنواع العمليات. فالجرح ينزف. والعظم يلتهب. والخياطة تفك. والفيستولا «وصل الشريان بالوريد» لا تعمل. ومن جاء وعمره أربعون سنة رياضي البدن لعملية سخيفة، خرج محمولا في تابوت قبل أن يمسه مبضع الجراح. فهذه وقائع رأيناها بأعيننا، ونقشت بختم لا يزول في أعصابنا. وعانينا من لجان التحقيق فيها. وكل طبيب يحترم نفسه يسلم بها. وليست موضعا للشماتة أو التعجب. فقد يضحك طبيب على زميله في اختلاط «Complication» فيقع في اختلاط أبشع منه ومن عملية أبسط. فعلى المرء ألا يكبر كلماته ويتعلم التواضع،إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا.

والسؤال عن سبب فشل أية عملية يبقى فلسفيا أتمنى أن أجد الإجابة عنه يوماً بنعم أو لا وبكلمة محددة. فلا يمكن البت وبشكل قطعي ونهائي أن هذا العنصر هو سبب الفشل في أية عملية جراحية. ويحزر الأطباء ويخمنون ويقولون إنه أقرب أن يكون السبب هذا أو ذاك.

ولكن أي شيء يحدث في هذا الكون بما فيه المضاعفات الجراحية تتضافر فيه مجموعة معقدة من العناصر لتوليد «المضاعفات» الكريهة.

وخلال عملي الطويل في جراحة الأوعية الدموية أجريت من العمليات بقدر الشعر الذي سقط من رأسي فلا أعدها وتبلغ الآلاف، ولم يخطر في بالي المراهنة على سبب محدد وعلى نحو قطعي أنه خلف فشل عملية ما؟ ولا يعني هذا أننا فوق النقد ودون الخطأ أو أنه ليس هناك من سبب بل نحن عباد الله الضعفاء الذين نجتهد فنصيب ونخطئ. والكون مركب على قوانين من سلاسل سببية لانهائية. ومن اجتهد فاخطأ فله أجر ومن أصاب فله أجران. ولكن لا توجد أية ضمانة لنجاح أية عملية جراحية سواء في جراحة الأوعية الدموية أو أية جراحة أخرى وعند أي مريض وبيد أي جراح ومهما كانت صغيرة. والحجر الصغير يفدغ أكبر رأس. والعبرة أن يكتب الله العافية للمريض على يد أي طبيب. فهذا هو لب التوحيد. فالله هو الذي يشفي. ومع الفشل يزداد حجم التحدي فيجب عدم الاستسلام وبذل المزيد من المحاولات للسيطرة على الوضع والرسو على شاطئ النجاح. ولا شيء اضر على نفسية الجراح من تتابع الفشل. فيجب القفز فوق عتبة الفشل النفسية. وإلا فقد الجراح الثقة بنفسه. ومن فقد الثقة بالنفس كان كمن يمشي من دون ظل. وهل سمعنا عن بشر يمشي من دون ظل إلا أن يكون شبحاً؟ والأشباح لا تمارس الجراحة.

وقد يكتب الله النجاح أو الفشل بأبسط سبب. وهذا من جملة العبر في استيلاء النقص على جملة البشر. وجراحة الأوعية الدموية مثلاً تجرى بعيون مجهرية تحت المكبرات وتلج عالما دقيقا يمشي فيه الجراح على الصراط المستقيم. إن قصرت القطبة الجراحية نزف المريض وإن زادت انسد الوعاء فانهار العمل على الطرفين. ونظرا لأن نتائج جراحة الأوعية الدموية فورية فيجب أن ينطق الشريان بالنبض والوريد بالانتفاخ فلا نغادر قاعة العمليات حتى نتأكد أن الشريان يصدح بأحلى الأنغام.

ومن يزعم لنفسه أنه سيمارس الطب من دون مضاعفات فلا يزيد عن كونه ثلاثة: إما أنه دجال لا يعي ما يقول، أو أنه طبيب شبح لا يمارس الطب. فالعمل الطبي والمضاعفات تزداد طردا مع كم العمل. وإما أنه يزعم أنه إله فوق الخطأ. ومن يقل منهم إنه إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين.

والجراح الأمريكي المشهور كولي قال عن عمليات القلب الأولى التي أجراها كانت مليئة بالاختلاطات. ثم تناقصت وبقي تواتر المضاعفات في الحدود المتعارف عليها دولياً. وأول عملية زرع قلب أجراها الجراح «كريستيان برنارد» مات مريضه بعد 18 يوما من العملية. موعظة وذكرى للعالمين.

وفشل أية عملية يتألم منها الطبيب قبل المريض. والمريض يتألم لأنه في حاجة إلى النتيجة وهي حقه. ويتألم الطبيب لأنه يواجه تحديا غير متوقع. وكثرة الفشل تؤرقه لارتباطها بسمعته الطبية. ونحن الأطباء رصيدنا سمعتنا. ومع كل اختلاط يتعلم الطبيب درسا جديدا يدفعه المريض من حياته وصحته.

وفي أية عملية يجب ألا يسميها الجراح صغيرة حتى يخرج منها. والمضاعفات الخطيرة قد تحدث مع أعظم الجراحين وفي أصغر عملية فهذا هو حوار الطب والفلسفة. وأية عملية مهما كانت صغيرة محفوفة بالمخاطر والفشل. فهذا لب الحقيقة. وكل منا يخرج من بيته يوميا ولكنه في نهاية النهار قد يرجع محمولا بكفن؟ وأكبر المضاعفات قد تحدث في أصغر العمليات. فهذه حكمة الحياة. ولا تتشابه حالتان. ولا يتطابق مريضان. ولا تخرج عمليتان بنفس النتيجة. رحمة من الله الذي يعلم السر وأخفى.

والجراح الأمريكي الشهير «ميشيل دبغي» لم يرض أن يجر العملية لزوجته على يد أحد فأجراها بنفسه فماتت على طاولة العمليات تحت يديه. إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين.

والخطأ الفني يحدث ليس لأن الطبيب أراده بل يحدث دون إرادته وخارج تقديره. والفرق كبير بين الخطأ الطبي والإهمال. فالخطأ الطبي معترف به والإهمال جريمة. والتفريق مهم بين الأمرين. فلا يستويان مثلا الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون.

وبشكل عام فهناك أسباب لا حصر لها في فشل أية عملية جراحية أخرى فيجب التنويه بهذا، منها ما نعلم ومنها ما لا نعلم. من تصلب الشرايين وتقدم العمر أو اضطراب تخثر الدم أو خطأ فني أو التهاب.

والمهم فللمريض الحق أن يشكو وللطبيب الحق أن يشرح وجهة نظره. ولو أن أحدنا يعلم الغيب لاستكثر من الخير وما مسه السوء. وإنما نجتهد فنوفق في معظم الأحيان، ونصدم مع المضاعفات، ونفشل فنحزن ونتعلم. ولم يتقدم الطب إلا بالتعلم من الأخطاء. ولو أن كل مريض عولج شفي لما مات مخلوق. ومن لم يراجع نفسه لم يتعلم. ولا تنجو نفس يوم القيامة ما لم تكن لوامة.. فالجراحة فيها نزف ودماء وأدواتها مشرط ومقص ومطرقة وإبرة ومثقب. ولا يوجد أي جراح يحترم نفسه يزعم أن العملية القادمة ستكون ناجحة مائة بالمائة مثل انتخابات صدام المصدوم إلا أن يكون رب العزة. وسبحان ربك رب العزة عما ما يصفون. فهذه هي فلسفة المضاعفات في الطب.

ويروي لنا التاريخ أن أنتوني إيدن رئيس الوزراء البريطاني دخل غرفة العمليات من أجل عملية مرارة بسيطة، ولكن خطأ جراحيا أدى إلى إطلاق سلسلة أحداث غيرت مجرى التاريخ. فقد قطعت القناة المرارية وتعرض لالتهاب متكرر دفعه لإدمان عقار أثر عليه سلبا في اتخاذ قرار غزو السويس فانهار سياسيا ومعها سمعة بريطانيا الدولية. وهذا يروي أثر الأمراض ومضاعفات الجراحة في الأقدار السياسية.