2004 عام يؤسس لثورة جديدة

TT

في بداية كل عام جديد تكثر التكهنات والتنبؤات عما سيحصل من احداث هامة او متغيرات. وهناك جرائد ومجلات مختصة في علم التنجيم وقادرة على ان تقول لك فيما اذا كان سينجح بوش في الانتخابات المقبلة ام لا! بالطبع لن ادخل هنا في مثل هذا النوع من التنجيم او العلم السحري لأنه ليس هاما الى الدرجة التي نتوقعها. اقول ذلك على الرغم من اني اكتب هذا المقال وامامي مجلة فرنسية تتنبأ لك بكل المتغيرات التي ستحصل عام 2004 على الصعيد الدولي، والفرنسي، او العربي، او الافريقي، او الروسي، او الصيني..الخ. ولا يعني اني استخف بما تقول هي ومجلة «الايكونوميست» البريطانية. فهو مبني على معطيات ووقائع وليس رجما بالغيب بدون اساس، ولكني اعتقد ان حركة التاريخ العميقة التي لا تُلحظ بالعين المجردة اهم من كل ذلك. ولا تستطيع هذه التحقيقات الصحفية، على اهميتها، ان تصل اليها.

ماذا تقول لنا حركة التاريخ اذا كنا نستطيع ان نرصدها وبالعمق الممكن؟ انها تقول لنا هذا الكلام البسيط التالي: في نهاية المطاف لا يصح الا الصحيح! كما وتقول لنا بأن الزبد يذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الارض. بمعنى آخر فإن الخطاب الآيديولوجي العربي بكل تهاويله ومبالغاته وشعاراته الحماسية وانفصاله عن الواقع قد انتهى. وهذه اكبر هدية قدمتها لنا سنة 2003 ويتوقع ان تصدّق سنة 2004 على هذه الحقيقة وتزيدها سطوعا. هل تسارعت حركة التاريخ عام 2003 وهل ستزداد تسارعا عام 2004؟ اتوقع ذلك، واتمناه. ولا اكتم القارئ بأني سعيد جدا بالتحولات السياسية والآيديولوجية الحاصلة حاليا في ليبيا، واعتبرها دليلا على النضج السياسي للقيادة الليبية، ونتمنى ان يتعمق هذا النضج اكثر فأكثر خلال هذا العام الجديد. فالعمل الآيديولوجي الذي كان سائدا طيلة السنوات السابقة وصل الى الباب المسدود، ليس فقط على مستوى ليبيا وانما على مستوى العالم العربي والاسلامي ككل. فهناك بوادر ايضا في ايران باتجاه العقلانية السياسية والابتعاد عن الهيجانات الثورية التي استنفدت طاقتها. ويمكن ان نقول الشيء ذاته عن الجزائر وبوتفليقة السائر ببلاده نحو بر الأمان على الرغم من كل شيء. وهناك تطورات مهمة في السودان باتجاه المصالحة الوطنية وانهاء تلك الحرب الاهلية المدمرة. كل هذا نتمنى ان يستمر وينجح على مدار العام الجديد الذي ابتدأ. ولا بد من الاشادة هنا بالسياسة العقلانية والمسؤولة لوزير خارجية قطر كما تجلت من خلال مقابلة اجرتها معه فضائية عربية. بالطبع لا تزال هناك انسدادات في بعض البلدان العربية. ولكن التدخل الاميركي في العراق على الرغم من سلبياته ومآسيه فتح ثغرة في جدار التاريخ المسدود، ولا يمكن للامور بعد الآن ان تكون عليه مثلما كانت من قبل. وربما تذكرت الاجيال القادمة ان مصير المنطقة العربية حسم من قبل تدخلين اساسيين على مدار مائتي سنة: التدخل الاول لنابليون بونابرت في مصر عام 1798، والتدخل الثاني لجورج دبليو بوش في العراق عام 2003، الاول ايقظ مصر والمشرق العربي من نومة اهل الكهف وعقلية القرون الوسطى. والثاني حطم الكليشيهات الآيديولوجية المتحنطة للعالم العربي، وسوف يؤدي الى تغيير جذري داخل الآيديولوجيتين الاساسيتين اللتين تتحكمان بنا، الآيديولوجيا الاصولية الدينية، والآيديولوجيا القومية العربية او التركيبة التي تخلط بينهما. وسوف ينتج عن ذلك فهم آخر للقومية العربية والاسلام، فهم يمكن ان يتصالح مع النزعة الانسانية والحداثة الديمقراطية.

هذا لا يعني ان الخارج سوف يفعل كل شيء عوضا عنا! فالواقع ان الخارج احدث الضربة الاولى او الزعزعة الاولى، واما بقية العمل فتقع على كاهلنا نحن. هنا تتبدئ محدودية القوة الجبروتية لبوش وعند هذه الحدود تقف لكي تبتدئ قوة اخرى بالعمل واكمال المهمة. واقصد بها قوة الفكر العلمي او الفلسفي الذي اتوقع له مستقبلا زاهرا في العالم العربي ولكن ليس على المدى القصير. لماذا اقول هذا الكلام الذي قد يبدو متفائلا اكثر مما يجب؟ لان انهيار الآيديولوجيا العربية القديمة، او التي اصبحت قديمة الآن، بكلتا ركيزتيها الاصولية والقومية سوف يترك الساحة فارغة. وبالتالي فسوف يفسح المجال لاول مرة امام الفكر العقلاني والفلسفي لكي يدخلها. فالساحة لا تحتمل الفراغ وانما ينبغي ان تملأ بشيء ما، بعقيدة ما.. والواقع انه دخلها سابقا ايام عصر النهضة. ولكن الاعتداء على فلسطين جعل العرب يفقدون ثقتهم بالغرب وفكره. كانت تلك كارثة لا تقل خطورة عن كارثة فلسطين ذاتها. قد يقول قائل: ولكن اذا كانت الآيديولوجية القومية العربية قد ماتت، فإن امام الآيديولوجيا الاصولية عمرا طويلا!.. وهذا صحيح، ولست ممن يستهينون بالعراقيل او العقبات. وكنت قد حضرت نفسي لهذه الاحتمالية منذ اكثر من ربع قرن. وبالتالي فأنا آخر من تفاجئه كل هذه الانهيارات والتطورات المتلاحقة. اني اعرف ان الآيديولوجيا الاصولية هي العقبة الكأداء التي سوف تنكسر على صخرتها كل محاولات التجديد العربي او التنوير الفلسفي. اني اعرف انها الخصم التاريخي الذي لا يحاط به ولا يقهر على المدى المنظور. وما اشتغالي على فكر محمد اركون لمدة ربع قرن الا برهان على وعيي الكامل بهذه الحقيقة.

ولكن ليسمح لي القارئ ان ابوح له بشيء ما. لقد فوجئت بخطاب بن لادن الاخير على فضائية عربية بعد ان استمعت اليه عدة مرات. فقد شعرت بأنه ابتدأ يعاني من نقطة ضعف او من فقدان الثقة. ودليلي على ذلك خوفه من ان يتهم هو وجماعته «بالخوارج»، ثم خوفه من التيار الاصلاحي داخل الحركة الاسلامية ككل. فهو يعرف ان هناك شخصيات اسلامية اخرى في العالم العربي، وان هذه الشخصيات الدينية المحترمة تدعو الى خط الوسطية والاعتدال طبقا للآية القرآنية: «وكذلك جعلناكم أمة وسطا» . فهل ابتدأ يخشى من ان يقذف به تطرفه وعماه الآيديولوجي الى اطراف الحركة الاسلامية فيهمش تدريجيا؟ اعتقد ذلك واتوقع انه خائف من هذه الاحتمالية.

يضاف الى ذلك ان تركيا المحكومة من قبل حزب اسلامي اصلاحي سوف تنزل الى الساحة بعد ان ضربها في اسطنبول بشكل مزعج. وتركيا ليست دولة صغيرة داخل العالم الاسلامي، وبامكانها ان تحجم بن لادن وتياره اذا ارادت ووضعت ثقلها في الميزان.

بمعنى آخر فإن تطور الاحداث او تسارع حركة التاريخ سوف يجبر العالم العربي والاسلامي ككل على توليد تأويل جديد بموروثه الديني غير تأويل بن لادن وجماعته. وهنا يكمن الرهان الاكبر للمستقبل.

سوف اضرب مثلا عمليا محسوسا على ذلك لكيلا يظل كلامي مجرد عموميات تجريدية. في خطابه الاخير يقسم زعيم «القاعدة» البشرية الى قسمين: مسلمين وكفار! هذا منطق قروسطي غير مقبول الآن حتى من قبل التيارات الاسلامية، وبخاصة اذا كانت تتعاطى مع العصر. فالمنطق الجديد سوف يقول بأن البشرية مقسمة الى مسلمين وغير مسلمين وليس الى مسلمين وكفار. لأننا اذا ما اتبعنا اللاهوت الظلامي لابن لادن كفَّرنا اربعة اخماس البشرية ووقعنا في صدام مباشر مع امم الارض كلها! وهذا ما اوصلنا اليه في الواقع. ولذلك فاني اتوقع تطورا لاهوتيا او حتى ثورة لاهوتية في المدى المنظور. وهي الثورة التي ابتدأت ملامحها تظهر لدى اقطاب التيار الاصلاحي بالذات من امثال جمال البنا، ومحمد طالبي، وعبده فيلالي الانصاري وطارق رمضان ومحمد خاتمي، وعبد الكريم سورش (في ايران)، ومحمد شحرور وآخرين عديدين في مختلف انحاء العالم الاسلامي. هذا دون ان نذكر اسماء المحدثين والتنويريين من امثال عبد المجيد الشرفي ومحمد الشرفي، ونصر حامد ابو زيد، وحسن حنفي، وعزيز العظمة..الخ.

واخيرا فإن اهم شيء استنتجه في نهاية هذا العام وبداية العام الجديد هو التالي: ان الحداثة العالمية تهجم علينا، على منطقتنا العربية والاسلامية. وسوف تجبرها على التململ والتطور غصبا عنها، او بارادتها لاني اعتقد ان الارض عطشى وجاهزة للتغير. ولكن العملية سوف تكون صعبة وعسيرة. فليس من السهل ان تفكك الرواسب التاريخية الراسخة منذ قرون. وليس من السهل ان تغير عقلية بأسرها، عقلية مغموسة بلاهوت القرون الوسطى من اعلى رأسها الى اخمص قدميها. ليس من السهل ان تهزها من جذورها وتدخلها في عصر الحداثة والعقلانية والحرية الدينية والتعددية العقائدية والديمقراطية السياسية. هذا عمل بطيء وطويل الامد. وسوف تحصل معارك فكرية هائلة في السنوات القادمة. واكاد أراها بأم عيني. وهنيئا لمن يشهدها ويكتوي بحر نارها!