في القمة أو في الحضيض .. لماذا؟

TT

بهذه المقالة نختم ما عرضنا له في المقالات الثلاث المنشورة على مدى الايام الثلاثة الماضية من قراءة في ما انتهى اليه الرئيس العراقي صدام حسين في ضوء التأمل في بعض مراحل مسيرته التي بدأها محبوبا لينتهي مبغوضا. ونبدأ بمسألة القبور الجماعية، التي هي النقطة الأكثر سواداً في جملة ممارسات القسوة الصدَّامية، والتي لو انها كانت معروفة على النحو الذي تم استنباشه فجأة لكانت مشاعر التعاطف مع صدَّام حسين من جانب الكم الهائل من المتعاطفين على غير ما هي عليه. فلا أحد يمكن أن يعذره على اضطراره لمثل هذا العقاب الهتلري للآخرين. أما مسألة الحزم والعزم والرهبة التي ترافقهما فكانت ستبدو أكثر إقناعاً للآخرين وتفهماً من جانبهم لضروراتها الوطنية والقومية لو أنها تتم من خلال المحكمة النزيهة والقضاة الذين إذا حكموا فبالعدل... ولا شيء غير العدل.

ومع الأخذ في الاعتبار أن هذا النهج في تعامُل الراعي مع الرعية حافظ على وحدة العراق لكنها وحدة مسوَّرة بالتخويف المقبول كأمر واقع المرفوض كشعور وجداني. ولكم كانت الأمور ستبدو أفضل لو أن الصحافة الصدَّامية كانت تملك مساحة من حرية النقد والتعبير تعوِّض هذه الحرية المفروض أن يأخذها على عاتقه البرلمان.. هذا في حال كان هذا البرلمان إسماً على مسمى وليس برلمان الرأي الواحد أو برلمان الموافقة دون مناقشة. ويجد المرء مثل حالنا يتساءل: ماذا لو كان البرلمان العراقي بمثل البرلمان الأردني الذي يشكل في موقفه توازناً يخدم الأردن سيادة وشعباً وملكاً؟ وماذا لو كانت هنالك داخل البرلمان العراقي أصوات متنوعة تعكس انطباعاً بأن مناخ التعبير قائم. ونلاحظ هنا كيف أن البرلمان الأردني اتخذ قبل أيام موقفاً يطالب بإنهاء الاحتلال الأميركي للعراق ويدين اعتقال قوات الاحتلال لصدَّام حسين، وهو موقف لم تتخذه الحكومة ولا هو صدر عن الملك عبد الله الثاني، كما أنه لم يبدِّل شيئاً من موقف الاردن المتعاون مع أميركا. ولكنها عقلية رفض الرأي الآخر هي التي جعلت صدَّام حسين لا يقرر وهو في قمة السلطة أن يكون للعراق برلمان متوازن يَطمئِنُ له الناس ويرون فيه أنه المؤسسة التي تمثلهم.

وما خرجتُ به من استنتاجات بعد مناقشات واستفسارات متقطعة مع شرائح متنوعة من العراقيين سبقت آخر لقاء لي بالرئيس صدَّام في مايو (ايار) 1990 قبل القمة العربية الاستثنائية في بغداد التي كانت قمة فلسطين المستضافة في العراق، هو أن العراقيين باتوا أكثر اقتناعاً بأن جولات المناقشة التي جرت من أجل دستور جديد ونهائي للعراق لا بد ستجعل رئيسهم يرى أن أبناء شعبه أُرهقوا ما فيه الكفاية وأنهم دفعوا ضريبة الحرب مع إيران، وأن من واجبه أن يكافئهم على صبرهم وتضحياتهم بانفتاح على العالم وحكومة متوازنة وبرلمان حائز الهيبة والقدرة على التشريع وقضاء يحكم بالعدل، واستفادة من نعيم الثروة النفطية التي استنزفت الجزء الأكبر منها مستلزمات الحرب والتصنيع العسكري بحيث يسافر من يريد السفر ويتاجر بحُرية من يريد المتاجرة وتزهو أسواق المدن العراقية التي كانت باتت متهالكة. ولقد شجعني ما سمعته ـ خصوصاً أن بعض القائلين كانوا قريبين من الأوساط الرئاسية ـ على أن أطرح على الرئيس صدَّام أسئلة بهذا المعنى، إلاَّ أنني لاحظتُ عدم رغبته في التركيز على هذه الأمور مكتفياً بالقول رداً على أسئلة أخرى: «إن أقدار العراق هي إما أن يكون في الذروة أو في الحضيض»... ولم أستوعب ما يريده من هذا القول، لكنني وجدتُ نفسي استحضر قولاً آخر أورده أمامي وأنا في مرحلة كتابة كتابي عنه وهو «إن العراق إما أن يكون منارة أو تدوسه سنابك الخيول...»!

هذا المشهد، بجانبه المضيء بضع سنوات والمظلم على نحو ما نرى منذ الحرب البوشية الأولى عام 1991 وحتى الآن، يفسر القولين اللذين أوردهما صدَّام الرئيس أمامي. ومن باب الإنصاف أقول إن صدَّام حسين كان راغباً بالفعل في إعادة النظر في حال توقفت الحرب مع إيران، وكان في صدد إلغاء مجلس قيادة الثورة وإعطاء الضوء الأخضر للإعلام من أجل أن يتطور في اتجاه لا يعود الأسلوب المتبَع على حاله. ومع أنه كان لن يقول لرؤساء تحرير الصحف بأن يتوقفوا عن نشر صورة له يومياً في صدر الصفحات الأولى، حتى إذا لم تكن هنالك مناسبة موجبة، لكنه كان سيلمح إلى ذلك في شكل أو آخر. كما أنه كان سيلمح إلى ضرورة تعديل صيغة النشرات الإخبارية في الإذاعة والتلفزيون وتعديل مضامين الأغاني التي تمجد شخص الرئيس وإلى تقليص نزعة ملء الساحات وبعض الجدران وبعض الحدائق باللوحات والجداريات والتماثيل. وكان التلميحان سيلقيان الترحيب الضمني خصوصاً بعدما باتت موجبات إبداء مشاعر الحب لرئيس البلاد نوعاً من التأليه لشخصه وهو ما ليس مستحباً.. فضلاً عن أنه مكروه دينياً بسبب جنوح بعض الشعراء وكاتبي كلمات الأغاني نحو المغالاة واستعمالهم مفردات من النوع الذي انفردت به مدرسة الإعلام الكوري الشمالي في تأليه كيم إيل سونغ.

وفي معرض الرغبة التي نشير إليها كان صدام حسين يقول إنه أراد الدستور الجديد من أجل ذلك، وأنه يريد بالفعل مكافأة شعب لم يبخل في الدعم الذي لولاه لكان الحكم تساقط، وأنه لم يعد من الجائز أن يستمر العراقي يعيش بنظام البطاقة التموينية بينما جيرانه ينعمون بالعيش الرغد ما دام العراق النفطي بمثل جيرانه النفطيين من حيث العوائد من الذهب الأسود. اما متى سيفعل كل هذا الذي نشير إليه فبمجرد استرداد الأنفاس التي أتعبتها الحرب مع إيران.

لكن المفاجىء إلى حد الذهول هو أن صدَّام حسين بدل ان يسرع الخطى في الاتجاه المشار إليه فإنه أعاد العراقيين إلى الحال الأسوأ، وأعاد العراق إلى دائرة المخاطر عندما قرر غزو الكويت مطمئناً إلى إيحاءات لها صفة المكيدة أو المصيدة جاءته من الادارة الأميركية ووجدها تتلاءم مع سيناريو يدور في خاطره، وهو أنه بغزوه الكويت يبرم اتفاقاً غير مكتوب مع السعودية يتضمن ما معناه قبوله بأن تضم السعودية دولة الامارات إليها، مقابل أن يوافق الملك فهد بن عبد العزيز وأشقاؤه وإخوانه على إلحاق الكويت بالعراق، مفترضاً ومتوهماً أنه في ضوء الإيحاءات الأميركية التي رمتها أمامه السفيرة أبريل غلاسبي فإن واشنطن ستجعله الطرف الأقوى في الخليج وستجعل بالتالي القبول السعودي بسيناريو الصفقة المتبادلة مسألة عادية. وتدليلاً على ذلك فإنه أوصل أفكاره المرفوضة بكل تأكيد من جانب السعودية إلى بعض أُولي الأمر السعوديين. ويستغرب المرء كيف أن صدَّام حسين لم يرَ في دولة مستقرة مثل الإمارات سوى أنها بمثل واحة في الصحراء يدور في شأنها نزاع، كما لم يستوقفه أن العالم بدءاً بالجيران وصولاً إلى أميركا لا يمكن أن ترتضي امتداد اليد العراقية إلى الكويت.

ولقد كان من الأكرم للعراق الكبير أن يحافظ على الشقيقة الصغرى الجارة الكويت فيقول للسفيرة غلاسبي إنه يرى في إخوانه الكويتيين السند عند الشدة وأن أي مساس في الواقع الكويتي مرفوض من جانبه. وهو لو فعل ذلك لكان أنقذ العراق وأنقذ نفسه وأنقذ حزبه وأنقذ ابناءه وأنقذ شعب العراق، ولكان عراق ما بعد الحرب مع إيران موضع اهتمام الذين حوله ما دام برنامج رئيسه هو إعادة إعمار ما دمرته تلك الحرب وتنقية النفوس مما علق بها وجمع الشمل العراقي السياسي الذي تشتت في كل الاتجاهات. والأهم من ذلك أن إدارة بوش الأب كانت ستواجِه إحراجاً ما بعده احراج لو أن ما فعله صدَّام مع الكويت كان نقيض الذي حدث وكانت الحرب الأولى على العراق عام 1990 لن تحدث ولن تليها سنوات الحصار فحرب بوش الإبن.

وقد يقال من جملة الافتراضات إن العراق الصدَّامي موضوع على لائحة الدول التي يجب وضع اليد الأميركية عليها بالكامل، وأن معاونة أميركا وحلفائها لصدَّام في حربه على إيران كانت من أجل أن يقترف نظامه المزيد من الأخطاء ويضطر إلى ارتكاب المزيد من القمع بحجة حماية الجبهة الداخلية وبحيث يشكل الحصار وتداعياته من جهة ونزوع صدَّام حسين إلى التحدي ولا شيء غير التحدي إلى يوم يتآكل فيه العراق، بحيث إذا إنفردت أميركا وبريطانيا بحرب عليه لا يصمد ثم تتفكك أوصاله ثم يتم احتلاله وقتل صدَّام وولديه وبعض أركان نظامه أو اعتقالهم ورميهم في الزنزانات والتمثيل بكراماتهم تمهيداً لوضعهم في أقفاص الإتهام أمام محاكم وقضاة، وهذا ما يحدث حتى الآن بدقة، وتتخلل ذلك عمليات لمقاومين عراقيين معلومين ـ مجهولين، وتنظيرات في كيف ومتى وأين ستبدأ محاكمة الزمن البعثي ـ العراقي بالكامل... وكأنما تلك إرادة الله في حق من كان محبوباً من أمته وصار مبغوضاً لأنه رأى عشرات العِبَر أمامه، إلا أنه لم يعتبر.