مثل حوذي تشيخوف يسرد العراقي مأساته لحصانه

TT

«ذلك الذي يستطيع الضحك لم تصله أخبار الرعب بعد»

الشاعر الألماني برتولت بريشت

هناك قناعة تشكلت في ذهني وأنا أتابع خبر تطوع 800 محام أردني للدفاع عن الرئيس العراقي المخلوع في حال محاكمته: لا يمكن فهم مرض السرطان إلا بعد الإصابة به. أو بصيغة أخرى: لا يمكن للشخص غير المصاب به أن يتفهم حقا معاناة من ابتلي به.

يكفي لأي شخص غير عراقي أن يلقي نظرة عابرة على ما جرى في العراق من كوارث خلال الخمسة والعشرين عاما الأخيرة، حتى يكتشف الخلل الذي أصاب نسيج المجتمع العراقي نفسه. فقبل بدء الحرب ضد إيران جرت تصفية مهولة لأبرز العناصر القيادية في حزب البعث على يد الرئيس السابق. يكفي لأي من هؤلاء السادة المحامين الذين تطوعوا للدفاع عنه في أي محاكمة تجري له داخل أو خارج العراق أن يشاهدوا الفيلم الوثائقي الذي يصور «أجواء الرعب» التي تم خلالها سحب «الرفاق» إلى ساحات الإعدام من القاعة، تحت وطأة هلع حلّ بمن حضر الاجتماع أن يشملهم الرئيس المتوج حديثا ببركاته الدموية، في الوقت الذي ظل الأخير يعبث بشاربيه مدخنا سيجاره المفضل. لا أظن أن ذلك المشهد الذي لا بد أن شاهده أولئك المحامون بثّ شيئا من الأسى على البعثيين العراقيين الذي قُتلوا بتلك الطريقة العبثية، إن لم يكن قد حظي بإعجابهم.

لا بدّ أن هؤلاء السادة المحامين سمعوا بعمليات الإبادة الجماعية التي لحقت بالمدنيين من نساء وأطفال في جنوب العراق وشماله، لكن لم تخلق في أنفسهم أخبار المقابر الجماعية أي فضول للتوثق من مدى صحتها; أن يذهبوا بأنفسهم للقاء أقارب الضحايا والتحقق من مدى صحة «مزاعمهم» على الأقل.

في زيارتي الأولى لبغداد، سمعت من صديق يقيم في منطقة «سدة الهندية»، الواقعة على بعد 60 كيلومترا جنوب بغداد، عن تلك الحافلات التي قدمت إلى بلدتهم بعد انتهاء الانتفاضة التي انفجرت اثر الهزيمة في الكويت. انطلقت النداءات عبر مكبرات الصوت تطلب من الجميع الذين تتراوح أعمارهم بين الخامسة عشرة والأربعين أن يخرجوا إلى الساحات. حينما وجد هذا الصديق ابنيه في طريقهما صوب الساحة القريبة من بيتهما، ساوره خوف غامض دفعه إلى القفز وراءهما وسحبهما إلى بيته. وهناك في الساحات تم تحشيد الحافلات بعدد من المدنيين، ثم أوقف المسؤولون قبول أي عدد إضافي بعد وصولهم إلى رقم معين. اتضح لاحقا، اوضح الجيران، لاحقا، بعد اختفاء هذا العدد، أن هناك نسبة قررها الرئيس السابق من كل مدينة في الجنوب تؤخذ بشكل عشوائي، ويتم تصفية الجميع ودفنهم سرا انتقاما من المدن المنتفضة عليه. هل هناك من هؤلاء المحامين الثمانمائة من يرغب بالذهاب إلى سدة الهندية؟ سأعطيه عنوان الصديق وستتم ضيافته على أحسن وجه ممكن، وستتوفر له فرصة اللقاء بأسر الضحايا. مقابل وجود محام أردني واحد يقبل بأداء مهمة تتعلق بـ«الضمير» البحت، سأتقبل عن طيب خاطر مشاركة كل المحامين الأردنيين في الدفاع عن صدام حسين.

لكنني أشك بإمكانية تحقق ذلك. ردود الفعل العربية ناجمة عن عدم القدرة على التعاطف مع الشخص الذي كان مصابا بمرض السرطان، وهو الآن في طور الشفاء بعد علاجه بالأشعة الذرية والمواد الكيميائية الخطيرة. كانوا يفضلون أن يبقى مريضا ويظلوا هم يتباكون على أبنائه المرضى بسبب الحصار. اتضح الآن من الموقف اللامبالي لما أصاب العراقيين من كوارث على يد النظام السابق، أن كل تلك الحملات المؤيدة للشعب العراقي في فترة الحصار هي حملة تأييد للقائد «الضرورة». إذ ماذا يعني، الأفراد العاديين، في نهاية المطاف، سوى انهم احصائيات تخدم الفكرة المجردة التي يحملها السادة المحامون عن البطل الفردي وما يمثله من تجريد مطلق للعظمة العربية، بغض النظر عما يترتب عليه من حروب خاسرة ومشردين في شتى بقاع العالم يصل عددهم حد الأربعة ملايين، ناهيك من سيئي الحظ الذين ظلوا رهائن لأجهزة مخابرات الرئيس المخلوع.

أصل إلى هذه الفرضية،التي قد تبدو صادمة بنفس درجة الصدمة التي يشعر بها العراقيون نتيجة لتطوع المحامين الأردنيين: الجريمة بحاجة إلى مناخ «جنائي». الجرائم التي ارتكبها النظام السابق أثناء فترة الحرب العراقية ـ الإيرانية كان لها مناخها «الجنائي» الذي جرت فيه، وبإمكاننا تقصي هذا المناخ «الجنائي» في الكثير من المظاهر أفضلها مهرجان المربد الذي ظل يُعقد كل عام ويشارك فيه الأدباء العرب من كل حدب وصوب، ليمنحوا شرعية «الجريمة» وتواصلها. لم يكن الهولوكوست اليهودي ثمرة لقرار النازية بتطبيق سياسة اضطهاد اليهود فقط، بل كان هناك مناخ «جنائي» أوروبي يتمثل بروح العداء للسامية ساعد على ارتكاب تلك الجرائم التي ظلت الصهيونية تستخدمها لتعميق وتجديد مشاعر الذنب لدى المثقفين الغربيين. ونفس الشيء جرى في العراق، فالمناخ «الجنائي» العربي نفسه سمح «للهولوكوست العراقي» أن يستمر لربع قرن، المناخ الذي يرى في حياة «القائد» البطل وحده معنى، أما حياة الآخرين فيجب أن تكون في خدمة رؤاه القومية الوهمية، أو فهي لا تختلف كثيرا عن حياة البهائم.

حسب بعض تقارير المنظمات الانسانية الغربية، يبلغ وزن الأدلة الدامغة التي تدين صدام حسين 18 طنا من الأوراق والوثائق والأفلام. وكم سيبلغ وزنها إذا أضفنا شهادات أولئك الذين فقدوا أحباءهم إلى الأبد؟

ما يعكسه موقف المحامين الأردنيين لا مبالاة تبلغ حد التجاهل المطلق لآلام ومصائب شعب بحاجة اليوم إلى من يسمع صوته بعد قضائه ربع قرن في سجون الصمت المطبق. أتذكر قصة تشيخوف عن ذلك الحوذي الذي مات ابنه لكنه لم يجد بين ركابه من هو مستعد للاستماع إلى ما جرى له، فما كان منه في الأخير إلا أن انزوى بحصانه ليسرد له مأساته الخاصة.

* كاتب عراقي