بعيدا عن العواطف.. اتفاق جدة السوداني.. ما له وما عليه

TT

لقد تابعت ومثلي كل السودانيين اعلان جدة الاطاري لم أصدق ما قرأت، للوهلة الأولى بالصيغة التي تحصلت عليها فطالعت أخرى لأتيقن من أن ما قرأت واقع صحيح. ما دفعني للتدقيق هو أن الاتفاق جاء وبكل صدق اطارا حقيقيا يحتوي ما أقتتل عليه أهل السودان لعدة عقود أزهقت فيها أرواح بريئة من خيرة شباب البلاد شمالا وجنوبا شرقا وغربا وبددت فيها طاقات ثروات كانت البلاد في أمس الحاجة لها لمواصلة ركب التقدم والتطور والنماء، وفوق ذلك الزمن الذي انقضى هباء منذ فجر استقلال البلاد والذي حسم سلبا على مسيرة البلاد الذي لا نستطيع بأي حال التعويض عنه أو إدراك ما فاتنا منه.

وجدت نفسي مجبرا للتساؤل عن ما يجري حولنا وما هي هذه القوى الخارقة التي هدتنا الى طريق الخلاص هذا. أهي الظروف الدولية التي يعلمها الجميع أم ارادة وطنية خالصة أم هي ترتيب تحالفات المستقبل؟

وقد خلصت الى أن الظروف الدولية، وكما نعلم أن الولايات المتحدة تحديدا تلعب، دورا محوريا في حصر شتات الخلاف السوداني أملا للعرض بتوقيع اتفاق السودان في عام اعادة انتخاب الرئيس الأمريكي وهو أمر أمريكي لا يعنينا منه الا ما يصيبنا من خير لنا منه وتجب الاستفادة منه. وقطعا لا شك عندي في خالص ارادة التجمع الوطني وذلك من ممارساته خلال الخمسة عشر عاما من عمره ووقوفه على ثوابت، الكثير منها مترجم، في صلب هذا الاتفاق ويتبقى على الحكومة ترجمة ما أتفق عليه لتأكيد خالص نواياها حتى يبرر الاتفاق. أما الأخيرة فلا شك عندي بأن العمل السياسي لا يخلو من المناورة خاصة اذا ما أستقرأنا الخارطة المسقبلية للعمل السياسي في السودان الجديد.

ان قراءة هذا الاتفاق من الوهلة الأولى تزيح عن كاهل أي وطني مخلص اليأس وتبعث بالأمل لسودان (تحكمه سيادة حكم القانون لا الجهة أو القبيلة، وتحت مظلة قضاء مستقل لا يؤثر على قراره حزب أو كيان في ظل نظام ديموقراطي تعددي حر وفوق ذلك توسيع مشاركة أهل السودان بتبني نظام فدرالي يتيح لكافة اقاليم السودان انتخاب ممثليها وحكامها).

ولبلوغ هذه الغاية ذهب الاتفاق لتقرير ثوابت هي في تقديري ضمانة السودان الجديد المتعدد الأعراق والثقافات (تسوده حرية العمل السياسي التعددي بضمانة حرية التعبير والصحافة والعمل النقابي والمهني ومشفوعة بمواثيق حقوق الانسان).

ما أوردناه أعلاه هي ظواهر ما يبدو من الاتفاق الا أن جوهر الاتفاق، وبقراءة متأنية، استوقفتني فيه النقاط التالية:

الأولى: الموافقة والتفويض المطلق من رئيس التجمع للحكومة على ما سيلي من مفاوضات في النقطة (أ ـ1). أجد نفسي متسائلا كيف يمنح السيد رئيس التجمع الوطني الديموقراطي ورئيس الحزب الاتحادي الديموقراطي، والكل يشهد له بالحذر والدقة فيما يقول، تفويضا مطلقا كهذا على نتائج مفاوضات مستقبليه اللهم الا لو أن هناك اتفاقا نهائيا قد تم وأطلع عليه، وهو أمر وارد تدعمه تصريحات المسؤولين في الحكومة وأطراف التفاوض. والسؤال هو اذا كان الأمر كذلك فلم التعتيم والاستمرار في التفاوض وتأخير مصير الأمة السودانية وهنا والاجابة في تقديري الأمر كله لا يتعدى اتاحة فرصة للتحالفات السياسية المستقبلية والتوقيع على ضمانات للنظام قبل اعلان الاتفاق النهائي.

والثانية: مع الاقرار التام بالضرورة العالمية لاعتماد اقتصاد السوق الحر الا أن ما ورد في الفقرة (ب ـ خامسا مع التأكيد على المضي قدما في سياسات الانفتاح ورفع يد الدولة..) والتي بموجبها قد يفهم تعميد الحكومة بالاستمرار في سياساتها ونهجها في مجال الاقتصاد، ويفهم منها أيضا أنها مباركة لنهج الحكومة في تحويل القطاع العام الى شراكات مؤتمريه الأمر الذي كتب فيه التجمع نقدا وأسس عليه مواقف طوال الخمسة عشر عاما الماضية، وادخال هذه الصيغة في هذا الموقع ما هي الا دلالة على أن الحكومة غير جادة في التخلي عن نهجها وما الاتفاق الا وسيلة لكسب زخم لما ذهبت اليه.

النقطة الثالثة: ما أورد في الفقرة (أ ـ 5 يحكم السودان حكما لا مركزيا (فدراليا) في اطار وحدة أرض السودان) ومع ملاحظة أن الفرق كبير بين النظاميين الفدرالي واللامركزي فهل المقصود هنا هو التوفيق بين موقفي الحكومة والحركة (التجمع) بأخذ أي ما يتفق عليه. النقطة الرابعة: المبدأ العام الذي اٌقر في الفقرة (ب ـ 9 الالتزام بمبدأ رفع المظالم ودفع الضرر)، هو في الواقع ترجمة لميثاق التجمع الجزء الخاص بالمحاسبه فهل حقا يوافق النائب الأول على هذا المبدأ وهو يعلم تماما أي مظالم وقعت على هذا الشعب الطيب. فكيف يتم رد مظلمة أهل الملايين الذين قضوا نحبهم فكيف ترد مظلمة الملايين الذين شردوا وكيف وكيف؟

النقطة الأخيرة: ما يؤخذ على الاتفاق أنه تجاهل تماما القضايا الجوهرية التي عطلت الاتفاق وأعني بذلك قضايا المناطق المهمشة الثلاث والتي اصبحت جوهر الخلاف الآن.

خلاصة القول ان اتفاق جدة الاطاري وان بقى رهن التنفيذ وحتى ذلك التاريح يحمد له أنه ثبت كافة المبادئ الأساسية التي تمهد لبناء سودان المستقبل، ويحمد له أنه جاء داعما لجهود ارساء قواعد الديموقراطية وكفالة حرية المواطن، وفوق ذلك جاء تأكيدا لوحدة البلاد في ظل تغيير جوهري لنظام الحكم من برلماني الى رئاسي ومن مركزي الى لامركزي أو فدرالي، وفوق كل هذا مهد لأن يكون الاتفاق المرتقب في نيفاشا اتفاقا أشمل بدل أن يكون اتفاقا بين فصيلين (الحركة والحكومة). ولو أنه ما زال يحدونا الأمل في أن يكون الاتفاق المرتقب شاملا لكل أهل السودان ولن يكون كذلك اذا لم يستصحب الاتفاق النهائي بقية القوى السياسية وضمان عدم تهميش أهل وشعوب المناطق المهمشة وذلك بالأخذ في الاعتبار رؤاهم ومشاركتهم في أمر هو مصيرهم.

* أستاذ جامعي سابق يقيم بجدة