مجددا... يا ويل المغلوب!

TT

صدق المثل القائل «من يأكل خبز السلطان ... يضرب بسيفه».

فميخائيل ساكاشفيلي زعيم جورجيا الجديد أعلن برجولة يحسد عليها بعيد اعلان فوزه الكاسح بانتخابات الرئاسة الجورجية ان على روسيا «التخلي عن فكرة التمركز العسكري الدائم» في الجمهورية القوقازية السوفياتية السابقة.

ساكاشفيلي ابن الـ 36 وخريج جامعة كولمبيا في نيويورك، لم يكن قد أبصر النور بعد عندما كان ديكتاتور جورجي متجهم الوجه، كث الشاربين، اسمه جوزيف دجوغاشفيلي ـ ستالين ـ يحكم الامبراطورية السوفياتية المترامية الأطراف يعاونه ـ ويناوئه ـ جورجي ثانٍ من دهاة الاستخباراتيين اسمه ... لافرنتي بيريا.

يومذاك، كانت الامبراطورية السوفياتية ذات الـ 22 مليون كلم مربع، تضم داخل حدودها مئات العرقيات وتسيطر مع توابعها على نصف العالم تقريباً وتطرح آيديولوجية عالمية بديلة للعقائد الدينية والقومية. ولكن بعد مرحلة نزف، ومن ثم، نزع طويلين انهار ذلك الكيان الضخم الذي وصفه رونالد ريغان ذات يوم بـ«امبراطورية الشر»، وانفردت الامبراطورية المنافسة لها بالهيمنة على العالم.

والواقع ان الولايات المتحدة، أو «امبراطورية الخير» المطلق ـ في رأي المحافظين الجدد من ورثة ريغان وملقنيه ـ اصبحت «حالة عالمية»... صارت محكاً ومقياساً تختبر وفقه ـ في كل مكان من العالم ـ الايديولوجيات والحسابات المصلحية والسلوكيات السياسية والمنظومات المبدئية الاخلاقية.

الولايات المتحدة الآن أكبر بكثير من «دولة كبرى». وحتى أولئك الذين تحدثوا كثيراً وكتبوا أكثر عن «الأحادية» لم يشرحوا تماماً لشعوب العالم المضامين العملية لهذه الأحادية غير المسبوقة في تاريخ الجنس البشري.

فرانسيس فوكوياما بمنظوره الذاتي التحزبي تحدث عن «نهاية التاريخ» بانتصار فكر سياسي على فكر سياسي آخر. الا انه عاد فهذب نظرته هذه بعد سيل من الانتقادات بينها تلك التي رأت ان زعم انتصار «الديمقراطية والليبرالية الغربيتين» بالمطلق تعوزه الدقة اللفظية ويغلفه التمني. وبالفعل، ما يشهده عالم «الحالة الأميركية» راهناً أكبر وأخطر من انتصار حاسم تستتب بعده الأمور ويصار الى تصدير فضائل الديمقراطية والليبرالية الغربية ـ الأميركية تحديداً ـ الى رياح الدنيا الأربع.

ذلك ان ثقل «الحالة الأميركية» المدعومة بالمال والتقنية والقدرات العسكرية الهائلة مركزي المنشأ ومرشح للتأثير على نمط حياة مختلف شعوب كوكبنا وليس فقط الأعداء المعلنين لها. فحتى في أوروبا، يعتبر غلاة هذه «الحالة» مثل روبرت كاغان ودونالد رامسفلد ان ثمة كتلاً وحكومات مناهضة يجب تحجيمها أو ضربها أو تذويب نفوذها عبر اغراق اوروبا بـ«المستعمرات» الأميركية الجديدة في شرق القارة. ومعلوم ان عشر دول معظمها من دول المعسكر السوفياتي سابقاً تدخل هذا العام «الاتحاد الاوروبي» تحت رايات امتنانها الأزلي لتحرير واشنطن اياها من نير «الاحتلال» السوفياتي. وهي بذا تبدل هيمنة بهيمنة... وتبعية بتبعية.

هذه «الحالة» في ظل منظور المحافظين الجدد الأميركيين يجب ان تهدد نمط تفكير الجميع ومعيشتهم. وكلما تدخلت هذه «الحالة» في الشؤون الداخلية لكل دولة صارت «قضية داخلية» فيها. وصدق الرئيس جورج بوش عندما قال في سياق اعلانه الحرب على «الارهاب» انه لم يعد هناك حياد فاما ان تؤيد دول العالم مع سياسته بالكامل او تصنّف في معسكر الاعداء. فالحقيقة ان هذه المعادلة تصدق على كل أشكال التعاطي مع كل القضايا العالمية الرئيسية، وها هو توني بلير رئيس الوزراء البريطاني ـ العمالي سابقاً ـ يستخدم اليوم من دون ان يرف له جفن مصطلحاً كـ«الدول المارقة»... الذي ابتكره اليمين الأميركي المحافظ.

بناء عليه، صار مفهوم السيادة كما هو مفهوم في القانون الدولي بحكم المنتهي، وبات العرف تقبل تبعية تفاعلية قائمة على حسابات الثواب والعقاب.

عودة الى قول ساكاشفيلي في موضوع الوجود العسكري الروسي نجد انه لافت حقاً. فالزعيم الجورجي الشاب يرى ان هذا الوجود يمس سيادة جورجيا، ولكن لا يمس هذه السيادة مثلاً وجود عسكري أميركي لحماية المصالح النفطية بمنطقة القوقاز، أو للتأثير على المعادلات العرقية الدقيقة في جمهوريات الجنوب الروسي الذاتية الحكم.

للتذكير فقط، جورجيا بلد فيه عرقيات متعددة بجانب الأغلبية الكُرجية ـ المنغريلية (70 % من السكان). فبجانب الروس (7% من السكان)، هناك الآذريون والأرمن والأبخاز، وكذلك الأوسيتيون (القريبون لغوياً من الفرس الايرانيين) الذين يعيشون في كيانين ذاتيي الحكم متجاورين يقعان عبر الحدود الفاصلة بين روسيا وأرض جورجيا التي عاشت معظم حقب تاريخها تحت سيطرة جيران عمالقة أقوياء.

المسألة، إذاً عند المستر ساكاشفيلي، البارع في السياسة والمتخلي عن التاريخ، مسألة مصلحة آنية و«ضرب بسيف» السلطة الكونية الوحيدة التي تدفع وتقبض وتعين وتعزل.

أما عند فلاديمير بوتين ... فـ«يا ويل المغلوب»!