«فتح» في الأربعين (3) لقد أصبح في الداخل

TT

يظهر ابو عمار على التلفزيون اليوم فتبدو على وجهه آفات جلدية من النوع الذي يفجّره العمر في المسام. يتحدث فترتج شفتاه. يمشي فيعلن العمر نفسه في خطاه. لكن هذا هو ياسر عرفات اليوم. اما ياسر عرفات الامس، فهو الذي كان يتسلل الى الخطوط الاسرائيلية من غزة ومن الحدود السورية ومن الحدود الاردنية، وكان اول من اخترق بنفسه الحدود اللبنانية. ولم يكن يردعه شيء، او احد. ولقد تعرض عرفات بعد بيروت وبعد تونس وبعد عمان وبعد اخفاقات غزة ورام الله الى انتقادات وحملات شديدة، لكنه بالتأكيد الرجل الذي جعل المقاومة ضد اسرائيل عملاً دائماً. ولذلك اصبح خروجه مطلباً اسرائيلياً دائماً. وقد اكتشف الاسرائيليون، بعد دخول ياسر عرفات الى غزة، ان الرجل لم يدخل رافعاً العلم الابيض بل دخل بكامل ثيابه العسكرية، باسماً وغاضباً ومعانقاً ومقاتلاً، كما كان الامر من قبل. الفرق الوحيد ان ابو عمار لم يعد في الخارج، لقد اصبح في الداخل الآن. وفي هذا الفصل من الاسطورة لا يمكن ان تعرف اين هو. فمرة يهدد اهل «حماس» بأنه سوف يستخدم المسدس بنفسه ضد المخالفين، ومرة يذهب ليرافق الشيخ احمد ياسين من الاقامة الاجبارية، بنفسه ايضاً، وسوف يظل احجية بالنسبة الى الاسرائيليين، يخافونه في الداخل كما خافوا منه في الشتات. ويتوقعونه مفاوضاً سهلاً فاذا به يهرب من كامب ديفيد طالباً «من العرب تحمل مسؤولياتهم!». الستَ انت بطل «القرار الفلسطيني المستقل»؟ بلى. لكن هذا شيء وهذا شيء. السياسة تتحرك. الايام تتحرك. والارض تدور، والشاطر هو من يتجنب الوقوع عن ظهرها في هذا الدوران.

تقاطعت حياة ياسر عرفات مع تاريخ فلسطين كتقاطع الشجرة والغابة. وفيما رأى العرب في النكسة الخيبة الكبرى، رأى فيها القفزة الطويلة. انها فرصته لكي يطرح «فتح» على انها البديل للخيبة العربية، وطبعاً لأن يطرح نفسه زعيماً لـ«فتح». وسوف يظل هو الرجل الوحيد، لا يطيق للزعامة الفلسطينية اسماً سوى اسمه ولا كوفية سوى كوفيته. لقد تميز الحاج امين الحسيني عن رفاقه بعمامته، انها رتبة لا تناقش. وان يتميز ابو عمار بكوفيته. انها ايضاً رتبة! رتبة «الختيار»، الذي سمى نفسه بهذا الاسم وهو بعد في الاربعين. لماذا؟ ربما، لأن «الختيار» يتقدم تلقائياً الآخرين. مقتضيات اللياقة والتقاليد العربية. واقتضاء الاسطورة التي يكون صاحبها مختلفاً عن سواه في كل شيء، حتى في المظهر. فحراسه يرتدون الثياب المدنية بينما يحافظ هو على البذلة العسكرية وعلى القاء التحية العسكرية، مرة وهو يستعرض جيوش الفدائيين ومرة وهو يلقي التحية على جثمان اسحق رابين. عبثاً تحاول ان تضبط ياسر عرفات في مكان واحد او في موقع واحد.

بعد خروجه من بيروت، اخذت المقاومة مقالة صغيرة كتبتها في المناسبة وطبعتها على بطاقة بريدية ارسلت الى جميع المقاتلين الذين خرجوا آنذاك من لبنان، وحمل اليَّ عصام ابو شنب نسخة من البطاقة وابلغني بما حدث. وبعدها بفترة ذهبت الى مقابلة ابو عمار الخارج من لبنان في حرب طاحنة مع احزاب اليمين وفي طليعتها حزب «الكتائب» الذي منه جاء امين الجميل رئيساً للجمهورية. واخذ ابو عمار يتحدث عن «صديقي الشيخ امين»، ويقول انه يتمنى له التوفيق.

«لن يقطع مع احد»، كان يقول المقربون منه، العارفون طريقته في اخفاء مشاعره، وايضاً في اخفاء نفسه. وكان يروي ضاحكاً حكاية الايام التي تخفى فيها بثوب راعي غنم او زي جندي بسيط لكي يضحك من مطارديه ويمر من بين اصابعهم، وهو يؤدي لهم التحية. وسوف يحير الاسرائيليين ومخبريهم وعملاءهم في بيروت، العام 1982، ويمضي لياليه في المقاعد الخلفية للسيارات، ثم يظهر فجأة في مقابلة تلفزيونية. وحاول ان يظهر في عشر او عشرين مقابلة دفعة واحدة، عندما اذاع «صوت لبنان» انه قد فرَّ من المعركة! هل تتصور ابو عمار هارباً؟

الى اللقاء.