المحافظون في إيران يستبقون ما بعد زلزال بام

TT

هل وصلت ارتجاجات زلزال مدينة بام، الذي راح ضحيته ما يزيد عن الثلاثين الف ضحية، الى طهران والى عمق النظام الايراني؟ بعد وقوع الزلزال، توقع الكثير من المراقبين السياسيين ان يتصدع النظام الايراني على المدى المتوسط، خصوصا بعد التفاعل الايجابي الذي ابداه العالم مع الشعب الايراني، والانفتاح الذي لقيه المسعفون الذين تدفقوا من مختلف الدول وصولا حتى الولايات المتحدة.

اخبرتني صديقتي الايرانية العائدة للتو من زيارتها لبلدها، ان المأساة التي اصابت بام والايرانيين، خففها التفات العالم الى ايران، قالت ان اغلبية الايرانيين، وهي فئة الشباب، رحبت باطلالة العالم على ايران حتى ولو كان السبب زلزالا، وهذا ما اقلق بعض القادة من رجال الدين المتشددين الذين خافوا من سحب بساط الحكم والتحكم من تحت ارجلهم. قالت ان هؤلاء رحبوا بكل من جاء من الدول واختلفوا حول الترحيب بمساعدات الولايات المتحدة الاميركية.

ويبدو ان بعض المتشددين قرر فرملة توقعات اغلبية الايرانيين، اذ جاء قرار مجلس مراقبة الدستور ليمنع ترشيح غير الكفوئين ـ برأيه ـ للانتخابات النيابية التي ستجري في العشرين من الشهر المقبل، وبتوضيح اكثر، تم منع كل زعماء الكتل الاصلاحية في مجلس الشورى (البرلمان) من اعادة ترشيح انفسهم. اذا نجح مجلس مراقبة الدستور في قراره هذا، فان مؤيدي الرئيس الايراني محمد خاتمي سيخسرون الانتخابات، لعدم وجود مرشحين عن كتلهم ويفقدون السيطرة على البرلمان. ويتحقق بذلك انقلاب دستوري ضد خاتمي من قبل اتباع مرشد الثورة آية الله علي خامنئي. إن مجلس مراقبة الدستور مؤلف من ستة رجال دين اختارهم خامنئي، ومن ستة محامين عينهم رئيس مجلس القضاء الاعلى، الذي عينه خامنئي وصادق على تعيينه البرلمان، اي ان مجلس مراقبة الدستور هو وسيلة بيد خامنئي ورجال الدين المتشددين.

من جهة اخرى، فان الكلمة الفصل في هذه المسألة ليست في يد مجلس مراقبة الدستور، بل ان مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي يسيطر عليه خامنئي يستطيع ان ينقض قرار مجلس مراقبة الدستور، وفي حالات كثيرة تراجع مجلس مراقبة الدستور عن قراراته الاولية. واذا لم يحدث اي تطور، من المتوقع ان يعلن المجلس عن القائمة الاخيرة باسماء المرشحين في العاشر من شباط (فبراير)، اي قبل عشرة ايام فقط من موعد الانتخابات، وهذا يعني انه اذا لم تحسم المسألة فورا، ستعيش ايران حالة من اللا استقرار مدة شهر تقريبا.

على كل، هذه الازمة بدأت فعلا في الثاني من هذا الشهر بخطبة الجمعة التي ألقاها آية الله احمد جنتي ـ رئيس مجلس مراقبة الدستور ـ في جامعة طهران وحمل فيها على الولايات المتحدة وقال إن قبول بلاده للمساعدات الانسانية الاميركية، لا يعني أن العلاقات بين البلدين تتحسن!

ويقول احد المتتبعين لتطور الاوضاع في ايران إن ملاحظات جنتي كانت للاستهلاك المحلي، ومحاولة من رجال الدين المتشددين للاحتفاظ بالسلطة عبر الانتخابات المقبلة، وان هذه الملاحظات لن تغير في مجرى التعاطي الاميركي ـ الايراني. ان رجال دين غير منتخبين مثل جنتي، الذي يرأس مجلس مراقبة الدستور بالا ضافة الى انه أحد أعضاء مجلس تشخيص مصلحة النظام، يرون أي تقارب مع الولايات المتحدة بمثابة خطر عليهم.

وتكشف ملاحظات جنتي عن تحول النقاش السياسي داخل ايران، اذ ان عددا لافتا من المحافظين التقليديين بدأوا يتحركون باتجاه الوسط، الامر الذي سيترك تأثيرا كبيرا على دور رجال الدين في النظام السياسي الايراني. ويقول محدثي ان جنتي والمتشددين قلقون بالطبع من الوجود الاميركي في العراق وما يجري من اتصالات، وراء الستار، بين واشنطن وطهران، وبغض النظر عما اذا كانوا غير قادرين او غير راغبين في وقف تعاون طهران مع واشنطن، فان هدف جنتي ليس الولايات المتحدة، بل تقوية نفوذ فريقه. ويوضح محدثي قائلا: لقد كشف جنتي عن استراتيجية التقليديين المتشددين، فهو استغل انفتاح المعتدلين على واشنطن واستعمله كتكتيك انتخابي، وحاول اقناع التقليديين بان التقارب مع واشنطن، كما يفعل المعتدلون، يهدد سلطة الائمة في ايران. ويضيف: ان رجال الدين مثل جنتي متخوفون من ان توفر الانتخابات المقبلة فرصة اخرى للمعتدلين والاصلاحيين من رجال الدين، ليزعزعوا المتشددين. ويأخذ التقليديون على الاصلاحيين انهم نجحوا في خلق انقسام في صفهم.

لقد شعر جنتي بان نفوذ المعتدلين يتزايد حتى بين حلفائه، خصوصا بعدما لعب رئيس مجلس الامن القومي، آية الله حسن روحاني، دورا اساسيا في عقد اتفاقية مع الوكالة الدولية للطاقة النووية، سمحت اثرها ايران للامم المتحدة في ارسال مفتشين، ساعة تشاء، لمراقبة المنشآت النووية. وقد يكون اكثر ما اقلق المتشددين ان آية الله خامنئي موافق ضمنا على الاتصالات مع الولايات المتحدة. وبرأي جنتي فإن هذه الاتصالات تقوي المعتدلين، وعلى رأسهم الرئيس خاتمي، مما يعكس ضعفا على المتشددين الحاكمين حتى الآن.

وفي الواقع، كان خامنئي يقود فريق المتشددين، لكن مع تنامي حركة الاصلاح في صفوف رجال الدين، وبعد التغييرات الجيو ـ سياسية التي سببتها عمليات 11 ايلول (سبتمبر) الارهابية، والاطاحة بصدام حسين والاحتلال الاميركي للعراق، رأى خامنئي انه مضطر الى التعاطي مع الولايات المتحدة، الامر الذي منعه من الاستمرار في التبني العلني لكل مواقف المتشددين، لهذا سمح لآخرين بان يعبروا، بدلا عنه، عن تطلعات الفريق الذي يترأسه، مثل حجة الاسلام علي اكبر رفسنجاني، رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، مع ما يقال عن الاتصالات الخارجية التي يرعاها وجنتي. لذلك، عندما هدد الاصلاحيون ـ إثر قرار مجلس مراقبة الدستور باستبعاد عشرات من مرشحيهم ـ بمقاطعة الانتخابات، قال خامنئي امام تجمع من حكام المناطق: «آمل ان تحل المشكلة عبر الاقنية القانونية، وبالطبع اذا فشلت العملية القانونية في ايجاد حل للمشكلة، وتطلب الامر تدخل القادة، فانني سأقوم بمهمتي».

اما خاتمي، فقال انه لا يوافق على رفض المرشحين «انما علينا ان نتبع الاقنية القانونية وبهدوء (...) لم نصل بعد الى طريق مسدود، ويجب تجنب العنف (!) ومن حقنا ان نقول ما علينا قوله ومن حقنا ان نعترض».

ويقول لي صحفي ايراني إن خاتمي والاصلاحيين لا يمكنهم ان يقبلوا قرار مجلس مراقبة الدستور، واذا فعلوا انتهوا كقوة سياسية وقانونية. ان مشكلتهم هي في كيفية المواجهة. والافضل بالنسبة اليهم ان يتدخل خامنئي بسرعة وينقض قرار مجلس مراقبة الدستور وينهي الصراع. لكن المرجّح هو ان المحافظين في مجلس مراقبة الدستور سيتفاوضون حول اتفاق مع خاتمي، لينتزعوا منه بعض التنازلات، وهذا سيضعفه انما يبقيه في السلطة. وفي كلا الحالتين ينوي مجلس مراقبة الدستور تقوية سلطة المتشددين.

من خلال تصريحاته، يبدو ان خاتمي وضع خيارين امامه. الاول، مناشدة المحافظين التراجع عن موقفهم، مع قوله انه غير مستعد لدفع ثمن مرتفع لهذا. والثاني، الطلب من وزارة الداخلية، التي يسيطر عليها، والتي تتحكم قانونيا بالانتخابات، ان تتجاهل قرار مجلس مراقبة الدستور.

على كل، لا يرغب اي من الطرفين في زعزعة نظام الجمهورية الاسلامية، وفي الوقت نفسه فان المحافظين سيفقدون من رصيد نفوذهم، اذا لم يفعلوا شيئا تجاه الانتخابات المقبلة، وبدورهم سيفقد الاصلاحيون سلطتهم اذا سمحوا بذلك. لكن، اذا كان المحافظون استنتجوا بان انتخابات حرة ستضع حدا لنفوذهم، لا بد ان يقرروا مواجهة الاصلاحيين بشتى الوسائل.

إن النظام السياسي الايراني هو مزيج من الديمقراطية البرلمانية مع نفوذ لرجال الدين. والصراع بين الديمقراطيين ورجال الدين المتشددين بالذات، حتمي. لكن الطرفين، لتخوفهما دائما من احتمال ان يهدد الصراع الوضع القائم، ينجحان باستمرار في ايجاد طريقة لادارته. وهذه المرة لا بد ان ينجحوا ايضا، لان الطرفين، المحافظين والمعتدلين، يلتقون في توقهم لبسط نفوذ ايران على العراق، كما ان المعتدلين يعرفون ان الولايات المتحدة لا تريد عدم استقرار سياسي في طهران يزعزع التفاهم الاميركي ـ الايراني!