التراث نمّط الفنان ولكن لماذا سلم الفن الإسلامي من هذا التنميط؟

TT

كان السؤال المحرض لكتابة هذه السطور لماذا يتعامل المجتمع العربي مع الفن والفنايين بازدواجية، بين إعجاب وحب للفن والفنان من جهة، ورفض اجتماعي للاشتغال بالفن من قبل المجتمع المحافظ من جهة أخرى، ومع أننا نسلم أن الفن وجدان الأمة وضميرها وحاكي احلامها، ومطهر وجدانها، وبوتقة صهر آمالها وآلامها، لكن هذا كله يقال عن روح الفن دون جسده المتمثل في الفنان، والإبداع الذي يفرزه الفنان وهو الذي ميزه الفيلسوف (شيلر) في ترتيب القيم. وحب الفن عند الإنسان ليس مصطنعا، بل يأتي من دافع فطري في الضمير الجمعي، ومن رغبة الإنسان في عالم مختلف ومتفوق، ومثالي، وطاهر; يفرز نفسه حتى في أقل المجتمعات تحضرا.

بحثت عن التناقض بين حب الفن في روحه، ورفضه في جسده المادي فلم أجد إلا سبب (التنميط) التاريخي التقليدي الذي قد يكون خلق صورة ذهنية من أيام دونية مهنة الفنان والشاعر في أول تاريخ البشرية عندما كان الشاعر (هميروس) يغني أشعار الأوديسة والإلياذة، والناس يأكلون حوله ناسين إعطاءه شيئا مما يأكلون إلى أن يقول في الأغنية بيتا، أو بيتين خروجا على النص يذكرهم أن شاعرهم المغني لم يأكل. وبعيدا عن زمن دونية المهن والطبقة التي تفرض نفسها إلى عالم اليوم، يمكن القول إن الرفض والقبول المزدوج يأتي من أننا نحمل الصورة الذهنية القديمة من كتبنا الأدبية النمطية عن مجالس الفن، والتي جاءت لنا في كتاب (ألف ليلة وليلة)، أو حتى مؤلفات الأخبار الأدبية الإسلامية مثل كتاب (الأغاني) للاصفهاني، والتي صورت مجالس الغناء في كثير من أخبارها على أنها مجون للمرفهين من السلاطين والتجار والأثرياء، يقوم به المغنون وترقص فيه القيان، وللمفارقة التاريخية هو ما تعرضه وسائل الإعلام الفضائية اليوم باسم الفن ونتقبله بدون مجون. عربيا وفي الغرب أيضا، وجدت نفس الصورة الدونية لهذا النوع المتهتك من الفن الذي يخاطب الغرائز، ويتجه لحسية التلقي، لكن مؤسسة الفن الثقافية تعمل خارج هذه الصورة في نطاق القيم الثقافية الراقية، ووجود هذا الطرف لا يلغي الاعتراف الثقافي بها على أنها قيمة في الثقافة الاجتماعية.

عربيا وحتى في الغرب، وعبر التاريخ، لم يكن الفن مؤسسة عامة، أو خاصة تعترف بها الدولة وتدعمها، كما هو الواقع الآن في الغرب وكثير من الدول العربية; بل كان مثل حاله في أوربا قبل النهضة منسوبا إلى أهل الحرف والمهن وأحيانا إلى المستوى الوضيع من المهن حسب ما يقول (أوسولد شبنغلر) وكان الرسامون في نظر المصطلح العام نقاشين، أما في عالمنا العربي فيعرف الممثلون بالمهرجين كما كانوا يسمونهم في عهد الخليفة المنصور أصحاب السماجات (والسماجة معناها قلة الحياء).

أوربا في العصور الوسطى، وأول عصر النهضة لم تعط الفنان ما يستحق، بل إن الكنيسة رأت في الفن فسادا لعقول العامة من رعاياها; لأنه على ما يبدو كان منافسا قويا للواعظ بإلهاء الناس عن الكنيسة مما يقلل الموارد المالية; إلا أن الكنيسة ما لبثت أن تبنت الفنون التمثيلية، وحملتها مواعظها الكنسية ـ كما يفعل أهل الصحوة الإسلامية عندنا هذه الأيام ـ، وحتى الأعمال الكبيرة مثل مسرحيات (راسين) و(كورني) التي وصلتنا مكتوبة من بداية عصر النهضة الأوربية، نفذت كما قرأنا في التاريخ تحت ظروف اجتماعية صعبة وبشروط كنسية محددة، رغم أنها تصوير للتراث اليوناني كما قعد له (أرسطو) في كتاب (الشعر) الذي هو مرجع كنسي مقدس في الفنون والعلوم في عصور الظلام الأوربي.

في مجتمعاتنا العربية اليوم تتفاوت حالة التصالح مع الفن بحسب التقدم الحضاري، لكنه في الرؤية العامة يصنف (بالمكروه المحترم) ـ إن صح التعبير ـ أو كما يقولون (الثوم المأكول المذموم)، وإلى الستينات الهجرية كان الغناء يعتبر جزءا من فعاليات المجتمع، وكانت هناك قمم فنية تحظى بالاحترام، بل إن بعضهم حظي بمجد استقبال رؤساء الدول وتقديرها بأوسمة وجوائز الدولة، أو كانوا جزءا إعلاميا من المشروع السياسي، مثل أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب في الغناء، وغيرهم في فنون التمثيل والأداء.

وعلى الرغم من وجود مؤسسات للفن في الدول العربية هذه الأيام فإن المؤسسات تبقى في الغالب قائمة تستقطب طلابه ومريديه، ويحقق انتشاره عبر وسائل الإعلام، إلا أن كل هذا لم يؤثر في صورة الفنان النمطية القديمة بشكل كبير على الأقل في المجتمع الشعبي والمحافظ.

صراع غير مبرر بين القبول الذهني للمعطى الفني والإيمان بأهمية روح الفن من جانب ومن جانب آخر مجاراة الناس في تبني النمط في دونية جسد الفن الذي هو مهنة، والمشتغلين به، حتى أن مجتمعات كثيرة ما زالت تربط بين الفن والمجون، مع ان النظرة تغيرت في هذا العصر بشكل كبير لأن إعماليات الفن في المجون انحصرت في الملهى الليلي أو مواخير التهتك; وهي أعمال لا ترقى أبدا إلى القيمة الفنية العليا للفن التي تعتبر في السياق الثقافي للأمة وترعاها الدولة بالمال العام وتبثها وسائل الاعلام الرسمي ومسارح الدولة.

ورغم ذلك فإن الغرابة تزداد حين ترى محاولة الإسلاميين من جيل الصحوة تبني الفنون الأدائية فقد حاول هؤلاء تبني مسرح وعظي، كما هو مسرح عصر قبل النهضة في أوربا ما قبل عصر (راسين، وكورني) بكثير، حيث المسرحيات الوعظية ذات الفكرة الواحدة، كما تبنوا شكلا من الغناء سموه الإنشاد، تسمعه بألحان أغاني محببة معروفة لمطربين معروفين، وأدرجوا هذه الفنون الوجدانية ضمن برامج الأساليب التوعوية إدراكا منهم لأهمية الفنون، التشاركية في الوصول إلى الوجدان الجمعي; ولكنهم لم يتبنوا من آلات الطرب والفن غير إيقاعات الدفوف.

تبني جيل الصحوة للفنون يعيد إلى الذهن حالة أوربا ما قبل النهضة وهو أمر يتلازم حتى في أسلوب الخطاب وإن اختلف الدين.

كما ترون تناقض الخطاب الديني في قبول ورفض الفنون مع الصورة الذهنية المرسومة لجسد الفن في العالم الإسلامي ففي الوقت الذي تلعن المنابر الفن وتؤلف كتبا في فضائح الفنان تتبنى المؤسسة الدينية غير الرسمية أعمال فنية مأخوذة من الفنانين الملعونين أنفسهم لغرض الدعوة.

من جانب آخر، لم يعد الفن مرتبطا بالمجون ولا بالحياة السرية للأثرياء المرفهين بعد أن تطورت إمكانية تسجيل الصوت وظهور الإذاعة، بل صار مشاعا وسلعة استهلاكية انتشر تداولها بين كل الناس.

الإعلام المسموع والمرئي أعاد صياغة مفهوم التعامل مع الفن، فلم يعد الفنان ذلك المهني الذي يقدم فنه لمن يدفع المال، بل صار الفنانون قادة للرأي في أعمالهم ولبسهم ومأكلهم وسلوكهم وربما فرضوا الذوق العام. نفس المرحلة وحتى على المستوى الشعبي ظهر كثير من الفنانين الشعبيين الذين خلقوا لهم معجبين عبر التسجيل بكل أنواعه، وصار من حق كل الأذواق الحصول على ما تريد من الفن الغنائي من دون موانع.

ونفس الشيء حصل في مجال التمثيل فرغم الرفض الاجتماعي والرسمي لعرض أول مسرحية عربية في سوريا (لأبي خليل القباني) واضطراره لنقل فنه المسرحي لمصر التي تعتبر الأكثر انفتاحا في أول عصر النهضة العربية.. نجد اليوم أن الدولة التي تملك الإذاعة، والتلفزيون تدعو الفنانين والممثلين للعمل لملء البرامج بالمنوعات الغنائية، التمثيلية فلم يعد التمثيل تهريجا بل صار نجومية.

الغريب أن هذا التبني للفنون من الجهة الرسمية ومن التيار الإسلامي المحافظ على طريقته، ومن كل التيارات الأخرى يأتي بتصالح اجتماعي كامل مع جسد الفن، وأعني الفنان وحرفته لا يساوي التصالح مع روح الفن وعمله في الوجدان الجمعي.

كان يتوقع أن يؤدي تبني الفن بالعالم العربي لما يقارب مائة سنة واستهلاكه بنهم وتقدير الفنانين رسميا ظاهريا ـ على الأقل ـ أقول كان يتوقع أن يؤدي إلى قبول الفنان في مركز متقدم في السلم الاجتماعي بدل قبول فنه فقط أو الإحتفاء السري به أو للحاجة الرسمية.

النقطة التي لم أتطرق لها أن الفنان في الغرب الذي هو ممثل جسد الفن لا يحظى بقدر السياسي أو العالم في السلم الاجتماعي لكن الفرق أن الغرب تتساوى فيه الفرص للكفاءة مما يجعل الفنان قادرا على تخطي العوائق الاجتماعية بالكفاءة الشخصية وقد يصل من هنا إلى رأس الدولة، ولو حصل التقدير للكفاءة عندنا في العالم العربي لوجد الفنانون طريقهم لتسنّم المسؤولية رغم التصنيف الاجتماعي.

* مسرحي سعودي