سنوات الذعر العربي

TT

أسوأ سؤال سمعته في أجود كتاب قرأته الاسبوع الماضي، جاء من قبل هاديا سعيد التي حكت عبر أكثر من مئتي صفحة عن الخوف العراقي ثم وقفت لتسأل: مم كانوا يخافون...؟ وأظن ان هذا السؤال بحاجة الى تعديل شامل ليصبح: ما الذي ما كانوا منه يخافون...؟ فبعد كل ما سمعنا وشاهدنا من مقابر جماعية ما عرفنا مثلها الا عند الخمير الحمر في كمبوديا. لا يستحسن ان نسأل عن اسباب الخوف العراقي بل عن حجمه وعمقه وآثار جراحه والاهم عن كيفية اصلاح مآسيه. وهذه نقطة لم تهملها المؤلفة فهي تعترف في كتاب «سنوات مع الخوف العراقي» ان خوفها كعربية متزوجة من عراقي في بغداد كان طفلا مدللا امام ذعر العراقيين الذين امتلأت بهم السجون والمنافي والمقابر في حين كان بعض اخوانهم العرب يتذوقون المن والسلوى في بلادهم دون دراية أو احساس ـ ربما ـ بما حولهم من انين مسموع ومكتوم.

وحسب ماعرفته هاديا سعيد عن قرب فان العراقيين كانوا دوما ابطال المكر النبيل في التعامل مع خوفهم وفي الدفاع عن ثقافتهم، وهي في كتابها الجديد تمارس بالاضافة الى ما تعلمته منهم من مكر نبيل مكرا ابداعيا تتقنه الساردات العربيات فتذكر نصف الحقيقة او ربعها على السطر تاركة للقارئ الحصيف ان يملأ الفراغات بين النقط والسطور.

ومن آيات مكرها الابداعي انها لا تدين احدا لا من المثقفين العراقيين الذين تعاملوا بداية بارتياح مع النظام السابق وعملوا في مؤسساته الداخلية والخارجية كسامي مهدي وحسن العلوي وانعام كجه جي وسميرة المانع وعشرات غيرهم وغيرهن ولا من العرب ممن رتعوا وسمنوا في بغداد على حساب أحزان العراقيين، انما تطالبهم فقط بأن يعترفوا بأنهم اخطأوا حين وضعوا مصالحم الشخصية قبل انين ضحايا الخوف. وقد حيرني، كما قد يحير غيري، انها من مئات الاسماء الادبية والفنية المعروفة عربيا وقفت عند بضعة اسماء مصرية كالسعدني والغيطاني وغالي شكري ومحسنة توفيق وهؤلاء فاصلة صغيرة في مشهد شامل فيه التونسي واليمني والشامي والمغربي وجميعهم لم يخلصوا لقيم الثقافة الحقيقية حين وضعوا طاقاتهم في خدمة الاستبداد. ولنعترف بمناسبة هذا الكتاب الهام الذي يحكي عن معايشة داخلية ان اثارة هذه القضايا وبهذا الشكل شبه الرمزي ـ حتى لا أقول المجامل ـ لا يخدم المثقفين العرب ولا العراقيين فقد كان الخوف شاملا والاستبداد العربي عاما وغدا سينهض مثقفون سوريون وليبيون وخليجيون ومصريون ويمنيون وجزائريون ويقولون للمثقفين العراقيين: ماذا كنتم تفعلون في بلادنا حين كنا نسجن ونعذب وننفى؟ ولماذا لم تتعاطفوا مع انيننا ومعاناتنا مع انظمتنا؟

لقد اتصل بي فور خروجي من سورية منتصف السبعينات ـ وهي الفترة التي يحكي عنها كتاب هاديا سعيد ـ اقطاب معارضة النظام السوري في بغداد طالبين التنسيق من هناك، وكان ردي آنذاك اننا لا نستطيع خدمة قضايا الحريات من تحت مظلة الديكتاتورية. ولا اذكر هذه القصة الآن لأدعي بطولة غير موجودة، انما لأذكر المؤلفة المبدعة ـ وهذا ليس دفاعا عمن كانوا في بغداد اودمشق ـ اننا كنا جميعا في وادي الخوف الذي لا يخفف منه تقسيمه الى مدلل وبسيط وفظيع، ومن منطلق خوفنا المدلل كنا نتفهم موقف شرفاء العراق في دمشق وغيرها فالخائف ـ وكلنا كنا خائفين ومنفيين بدرجة او اخرى ـ لا يملك خيارات كثيرة وسيكون من أسعد الخلق للحظات حين يجد من يجدد جواز سفره أو يمنحه اقامة الى حين. ولا اريد ان أقف عند ايجابيات هذا الكتاب الغني وهي كثيرة، لكني استغربت اثناء مروري على اسم عزيز الحاج اكثر من مرة ان المؤلفة لم تذكر انه سلم اسماء رفاق نضاله في الحزب الشيوعي والقيادة المركزية للسلطة بعد ان التهمت الضواري من اعتقلوا معه امام عينيه، فهذا هو الخوف العراقي المصفى الذي يتضاءل امامه أي خوف ولا يحتاج صاحبه ان يحكي كثيرا ليدافع عن نفسه فالاجيال قد تعيد قراءة تجربته وتجارب غيره ـ كما تأمل هاديا سعيد في كتابها ـ على ضوء مصباح جديد.