«فتح» في الأربعين (7) عند بورقيبة

TT

مع وصوله الى تونس، اكتشف ياسر عرفات، للمرة الاولى في حياته، ان اقامته الدائمة اصبحت في المغرب العربي، خلف المتوسط لا امامه. وعلى الساحل الممتد امامه هنا تقع بنزرت، او بنغازي، او الدار البيضاء، وليس حيفا او غزة او عكا. كم بدت فلسطين بعيدة في هذه اللحظات: القوات الفدائية التي كانت تخيف العالم العربي وترعب الغرب، موزعة الآن ما بين اليمن والسودان. والعمل العسكري والمصفحات وسيارات «الكفاح المسلح» تركت في بيروت للاحتراق. وهنا في تونس، في ضيافة الرجل الذي دعا الى قبول قرار التقسيم، لا قوة ولا عمل للمنظمة سوى العمل السياسي. لا بيروت بعد اليوم. ولا عمان. ولا جبهة مباشرة مع اسرائيل. فهل يتطلع الفلسطينيون الى قائد من الداخل في مرحلة المواجهة الجديدة؟

انها فكرة تقض وسادة الرجل الذي يعتمر كوفية رسم عليها خريطة فلسطين. وبدأ في تونس يعيد حساباته في كل شيء. وكانت الاولوية البحث عن حليف. فمن يريد حليفاً مجرداً من السلاح؟ وكم من الزعماء العرب كانوا فرحين في سرهم لأنه لم يعد في امكانه ان يضرب يده على الطاولة او ان يصفق الباب خلفه، او ان يصر على عقد المحادثات ومسدسه الى خصره، علامة عدم الثقة بالمضيف او بحراسه!

خرج عرفات من لبنان وهو على خصومة معلنة مع سورية. وبدلاً من ان يذهب براً الى دمشق ذهب بحراً الى اثينا. واما مصر فكانت لا تزال تسبح في مياه كامب ديفيد وامواج «جبهة الصمود»، وكان صدام حسين يرى في خروج مصر فرصته الذهبية لاعلان بغداد عاصمة العرب. ولذلك اتجه نحو طهران يحاربها وجعل كل الخليج يقف على رؤوس اصابعه ومدَّ اعواد الثقاب على مدى المياه. وفي هذه الاثناء كانت علاقة عرفات بايران لا تزال في اوجها. فقد اغلقت الثورة الاسلامية سفارة اسرائيل فور قيامها وقدمتها له يرفع العلم الفلسطيني فوقها. ورأت في عرفات حليفاً ثورياً مثالياً كان قد زودها السلاح خلال التمرد على الشاه. وفي بداية الحرب العراقية ـ الايرانية كان لا يزال يقف بوضوح الى جانب طهران، على الاقل بمشاعره. وخلال القمة الاسلامية في الطائف دعاني الى عشاء «المسخن» التقليدي في مقر اقامته. ودار الحديث مع ضيوفه حول امور كثيرة. وقلت له، كيف تقيَّم حالة الحرب، فأجاب ضاحكاً: «كبِّر عقلك. 8 ملايين انسان في مواجهة 48 مليونا، ماذا يمكن ان يحدث؟».

لم يكن ابو عمار قد عرف بعد ان الدعم الاميركي يمكن ان يكون مفاجأة المسألة. ومن تأييد ايران سوف ينتقل الى تأييد العراق، في اكبر خطأ سياسي ارتكبه العراق، وفي اكبر خطأ سياسي ارتكبه الزعيم الفلسطيني الذي غامر بتشريد نصف مليون رب عمل في الخليج. وقد حاول كثيرون من رفاقه اقناعه بموقف اكثر اعتدالاً، لكن الرجل الذي اسس «فتح» في الكويت اتخذ، هو والملك حسين، الموقف الغامض الذي لم يفهمه احد حتى الآن. وسوف يروي محمد سعيد الصحاف، وزير «الحربية» العراقي، ان الملك حسين كان في اول دبابة شنت القتال على الجبهة الايرانية. ووقف الاثنان الى جانب بغداد و«الحل العربي» برغم كل النداءات من اصدقاء وحلفاء الامس. وفي ما بعد استطاع الملك حسين، بديبلوماسيته الفائقة وليونته الاسطورية واسلوبه الفريد في اتقاء العاصفة، ان يعود ويعقد المصالحة مع الكويت ودول الخليج. ولم يزل عرفات معانداً.

بعد غزو الكويت، لم يذهب عرفات في المقابل مرة واحدة الى العراق، اذا لم تخني الذاكرة. ورأى ان مدارج المطارات قد هبط عددها، وان حماس الاستقبالات قد انخفض، فجعل وجهته الرئيسية مصر. انها في القاطع الآخر من غزة.

الى اللقاء