الفيدرالية في العراق هاجس يحمله أردوغان إلى واشنطن

TT

يحذر بعض المراقبين من احتمال ما قد تتعرض له تركيا في المستقبل، وينطلق هؤلاء في تحذيرهم هذا مما يجري او سيجري في العراق، على اساس ان الفيدرالية حسب المفهوم التركي تعني تقسيم العراق، وما قد يترك من تداعيات على وحدة تركيا. وقد تكون هذه المخاوف مبالغا فيها، غير ان انقرة، القلقة على مستقبل عراق غامض حتى الآن، بدأت في تكثيف اتصالاتها الديبلوماسية، فاذا كانت واشنطن مشغولة بأزمتها مع آية الله علي السيستاني ومطالبه بانتخابات عامة قبل نقل السلطة الى حكومة عراقية انتقالية، فقد رأت تركيا ان تنشغل هي بمستقبل الاكراد، لا سيما بعدما سمعت رد فعل عبد العزيز الحكيم، الزعيم الشيعي المؤثر القريب من السيستاني وأحد اعضاء مجلس الحكم العراقي.

وصل عبد العزيز الحكيم الى تركيا في الثاني عشر من الشهر الجاري، وأجري له استقبال كبير، ورغم انه ليس الرئيس الحالي لمجلس الحكم العراقي فقد استقبله رئيس الوزراء، رجب طيب اردوغان، وكذلك وزير الخارجية عبد الله غول. لدى وصوله صرح الحكيم بانه ضد الفيدرالية في العراق القائمة على التوزيع العرقي. وفي لقاء مغلق بينه وبين اردوغان، كان رئيس الحكومة التركية واضحا عندما قال، ان الدول المجاورة للعراق ستتدخل لمنع تقسيمه حسب الوجود الاثني، وانه سيتم توقيف الاكراد عند حدهم اذا ما رغبوا في تحقيق طموحهم بالسيطرة على المناطق الغنية بالنفط في الشمال، وبالذات منطقة كركوك. ويبدو ان رد فعل الحكيم لم يكن حسب التوقعات التركية، بمعنى رفض الفيدرالية بالكامل. فهو عندما طُلب منه التعليق حول التحرك الكردي في اتجاه الفيدرالية اجاب: «ان وجهات نظرنا تلتقي مع تلك التركية. اننا نريد الديمقراطية للعراق وهذا ما تريده تركيا ايضا»! ولما شعر بان هذا التعليق لم يثلج قلب القيادة التركية، اوعز الحكيم لاحد المرافقين له للتصريح للصحف التركية بان الشيعة في العراق، والسنّة العرب، اقنعوا الاكراد في اجتماع اربيل بان يخففوا من مطالبهم بالنسبة الى كركوك وحتى بالنسبة الى الفيدرالية.

وحسب المعلومات، اتفقت الاطراف العراقية على ان المناطق الشمالية الخاضعة الآن للزعيمين الكرديين مسعود البرزاني وجلال الطالباني تبقى على حالها وتحت حكمهما حتى عام 2005، اي حتى يصادق الشعب العراقي، عبر الاستفتاء، على الدستور الجديد، بعدها يصبح شمال العراق جزءا من عراق فيدرالي، اما مصير كركوك فانه سيتقرر بصفته وضعا خاصا. واتفقت الاطراف العراقية على ان حقول نفط كركوك تديرها حكومة مركزية مع الاخذ في الاعتبار حصول الشمال على حصته من عائدات النفط.

منذ بداية هذا الشهر ورئيس الوزراء التركي يكثف الاتصالات والاستقبالات استعدادا لزيارته المقبلة الى الولايات المتحدة، لاعطاء كشف بما لديه والحصول على صورة اوضح، اذا امكن، لتطورات الاحداث على المسرح العراقي. وحتى الآن، لم تتدخل واشنطن لدى الاكراد لمنع تطلعهم الى الفيدرالية. وحسب مصدر تركي، فان اردوغان ذاهب الى واشنطن وفي يده ورقة قوية، إذ سمحت حكومته باستعمال قاعدة انجيرليك الجوية في جنوب تركيا كنقطة تبديل للقوات الاميركية العاملة في العراق. وفي السادس من الشهر الجاري استقبلت انقرة الرئيس السوري بشار الاسد الذي صرح بان تفتيت العراق الى دويلات صغرى هو «خط احمر» لن تقبل سوريا بتجاوزه. بعد ذلك توجه وزير الخارجية عبد الله غول الى طهران، حيث اعلن ووزير الخارجية الايراني كمال خرازي ان البلدين ضد الفيدرالية في العراق، القائمة على اساس عرقي، وابلغ خرازي وزير الخارجية التركي ان ايران تريد قيام دولة في العراق بدل التركيز على الاعراق.

ولأن تركيا مرتبطة بالمؤسسة العسكرية، فقد بدأ الجنرالات يدلون بتهديداتهم، إذ قال نائب رئيس الاركان، ايلكير باسبوغ، ان حماما من الدماء سيتفجر داخل العراق اذا جرى تقسيم السلطات السياسية على اساس عرقي. اما القائد العسكري التركي في ايجه، الجنرال هورسيت طولون، فقد حذر اثناء زيارة الى ازمير من الاخطار التي تهدد تركيا، وقال: ان الفصل العرقي احدى المشاكل التي تهدد تركيا، وهناك من يحاول زعزعة العلمانية والاتيان بحكم الشريعة «ولا احد يمكنه نكران ذلك». اما العراق فقد يتقسم: «ان العراق عاجز عن حماية وحدة اراضيه ونتيجة لذلك فانه سيتقسم، وتقف وراء هذا التقسيم بريطانيا والغرب» ثم اضاف الجنرال طولون: «اننا لن نتخلى عن جمهورية قبرص الشمالية (...) البعض يقول ان العسكر لا يحبذون اتفاقا حول قبرص، وهذا ليس بصحيح».

هذه التصريحات، المغلفة بتهديدات معينة، لن تدفع اكراد العراق الى الكف عن المطالبة بالاعتراف رسميا بحكمهم الذاتي، وقد تضطر الولايات المتحدة للعب دور الوسيط بينهم وبين الدول المعنية بمستقبلهم. والاكراد اذكى من ان يطالبوا بالاستقلال التام، فقد وصلتهم النصيحة الثمينة، بان دولة كردية مستقلة في شمال العراق، تعني اسرائيل ثانية في المنطقة، إنما اسرائيل من دون تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة، وهم حتى بمطالبتهم بالحكم الذاتي ضمن عراق فيدرالي لا بد ان يتجنبوا الوصول الى صراع مباشر مع تركيا بسبب مدينة كركوك. وتشعر تركيا بقلق، اذ يشكل الاكراد لديها 20 في المائة من السكان، كما ان لديهم وجودا كبيرا في سوريا وايران. وتتخوف هذه الدول من احتمال ان يؤدي اي اعتراف رسمي بالحكم الذاتي لاكراد العراق الى قلاقل في المناطق الكردية لديها، وهي في الوقت نفسه تكرر انها ستحترم رغبة العراقيين في اختيار شكل الحكم الذي يناسبهم. ويكرر الاكراد بدورهم استعدادهم القبول بعراق واحد مع حكومة لامركزية، بحيث تتمتع الاطراف بحد من الحكم الذاتي، اي يبقى للعراق عملته الموحدة وجيشه الموحد، انما لا تتدخل بغداد في شؤون هذه المناطق.

ولان تركيا من يطلق انذار الخطر، فان عليها ان تجد قواسم مشتركة مع زعماء الاكراد العراقيين، وان يتجاوز الطرفان حوار الطرشان الدائر حاليا. فمنذ صراعاتهم مع نظام صدام حسين واكراد العراق يصرون على ان الحل بالفيدرالية للعراق. تركيا عارضت الفكرة في البداية، لكنها تقول اليوم انها لا تعارض هذا النوع من الحكم شرط ان لا يكون قائما على اسس عرقية ودينية. هذه خطوة ايجابية، والمهم ان يوقف الاتراك اضافة التهديدات بالتدخل. ومن ناحية الاكراد ايضا، هناك بينهم من يرتاح لاثارة الغضب التركي. وقد كان مستغربا ما قاله برهان صالح، احد قادة الاتحاد الوطني الديمقراطي، يوم السبت الماضي عندما شارك في عشاء للصناعيين ورجال الاعمال في انقرة. فهو بعد ان هدأ من روع الحاضرين بقوله «اننا نحترم الدول المجاورة، انما نحن بصدد انشاء دولة تتمتع بعلاقات حسن جوار مع جيرانها، لذلك نطلب من هذه الدول احترام شؤوننا الداخلية»، اضاف: «على تركيا والدول المجاورة الاخرى ان تتذكر ان كردستان العراق تتمتع باستقلالها منذ 12 عاما». وكان القادة العسكريون والسياسيون الاتراك غضبوا عندما قال برهان صالح، ان الاكراد يطالبون بكركوك. ربما كان صالح مستمرا في مناورات سياسية داخلية، لكنه بتصريحاته هذه اثار الحساسية التركية تجاه اي كيان كردي في شمال العراق قائم على العرقية. وهناك اكراد آخرون يعلّون سقف تطلعاتهم ويطالبون ايضا بكركوك، مما يثير حفيظة انقرة والتركمان العراقيين، إذ بينما هناك عدد كبير من الاكراد يعتبر كركوك مدينة كردية، فإن العرب، والتركمان بالذات، يقولون إن طابعها كان دائما تركيا. وتجنبا للمشاكل، اقدم الزعماء الاكراد على تقديم تنازلات كبيرة، فهم ومع اصرارهم على ان كركوك كردية، الا ان سكان تلك المدينة سيقررون مستقبلها. لكن هذا لم يمنع المتطرفين الاكراد من التسبب بالمشاكل داخل المدينة، ولم يمنعهم من مواصلة التحرشات. وهناك في المقابل تشدد لدى البعض في انقرة، وبين التركمان العراقيين الذين يريدون المواجهة العسكرية بدل الحوار.

ويؤكد لي صحفي تركي، ان هناك بعض التركمان العراقيين الشيعة المرتبطين برجل الدين المتطرف مقتدى الصدر، وان انقرة تعرف انهم وراء المشاكل التي وقعت مؤخرا في كركوك. ويضيف ان بعض الاشخاص المرتبطين بدوائر معينة في انقرة يقومون بنشاطات تخريبية في كركوك، وفي مناطق اخرى في كردستان قابلة للاشتعال.

ويلفت محدثي، الى الحملة العدائية التي تشنها بعض الصحف التركية ضد اكراد العراق وزعمائهم، وان هناك تشويها للحقائق يستهدف بالذات مسعود البرزاني وجلال الطالباني، ويقول إن ما غاب عن البعض في تركيا هو ان برزاني والطالباني سيلعبان دورا حيويا ليس فقط في شمال العراق بل ايضا في بغداد، كما يجري اليوم، وستكون لهما كلمتهما في شكل عراق المستقبل وطريقة حكمه «وبدل ان نعمل على استبعادهما علينا التقرب منهما»، انما، يضيف، عليهما ايضا بذل الجهود لكبح المشاعر الكردية المعادية للاتراك، لانه، اذا كانا نجحا في تأمين الازدهار والاستقرار لمناطقهما، فان ذلك بفضل تركيا، وكي يحافظا على هذا المستوى في المستقبل، فانهما لا بد ان يحتاجا الى تعاون تركي فعال.

لقد كشفت الحرب على العراق عن انقسام في توجهات السياسة الخارجية الاميركية والتركية، وتحاول انقرة رأب هذا الصدع، وهي لن تغامر في قطع العلاقات نهائيا مع واشنطن بان تشن حملة عسكرية ضد مناطق الحكم الذاتي الكردي، مهما كانت حدودها! واكثر ما يمكن ان يطلبه اردوغان في واشنطن هو عدم منح الاستقلال التام للاكراد. ومن المؤكد ان تحترم واشنطن رغبات انقرة، لان مصداقيتها مع الاكراد لن تتعرض للاهتزاز، ذلك ان كركوك لم تكن ضمن المنطقة الشمالية التي حُظر الطيران العراقي من التحليق فوقها اثناء الحصار على العراق، ثم ان الاكراد عبروا عن نواياهم، وان يكونوا جزءا من كل العراق افضل، إلى حد ما، من استعداء المنطقة كلها ضدهم.