حب الجبل البارد

TT

امرأة شاسعة الفتنة مشتعلة العواطف تنتظر حبيبا غائبا خلف شباك بارد في جبل بارد، فيعود ليعانقها عميقا بكل حب الكون، ثم يموت في اليوم التالي وقد زرع في رحمها طفلة جميلة مثل أمها ورقيقة وشفافة مثله.

هذا باختصار وتكثيف فيلم «الجبل البارد»، الذي ستحكي عنه الصحافة الفنية منذ الآن وحتى اعلان جوائز الاوسكار اواخر فبراير (شباط) المقبل، فنيكول كيدمان مرشحة لجائزة افضل ممثلة عنه ورينيه زيلويجر، ستحصل بالتأكيد على جائزة افضل ممثلة مساعدة، فقد قامت تلك العبيطة الاميركية بدور لا ينسى وهناك ستة ترشيحات لأوسكارات اخرى، فالاكاديمية الاميركية للفنون لا يمكن ان تفوت فيلما عن الحرب الاهلية الاميركية 1864 دون ان تصنع منه حدثا كما فعلت مع فيلم سكورسيزي «عصابات نيويورك»، وكما تفعل عادة مع اي فيلم عن التاريخ الاميركي الدامي منذ «ذهب مع الريح».

ومن قرأ كتاب «الجبل البارد» لتشارلز فرييزز يقول لك انه اجمل من الفيلم المأخوذ عنه، فالقلم يأخذ راحته في تصوير العواطف الجوانية والانفعالات النادرة، والكاميرا ليس لها الا ما تضعه امامها. وفي حكاية العواطف بالذات لا تصدق من يقول لك ان اللقطة بألف كلمة، فجملة قصيرة بسيطة من يراع متمكن تحار في التعبير عنها مئة لقطة، وألف كاميرا، والغرام في هذا الفيلم اصلا غرام لغة، فالعاشق لم يشاهد الحبيبة الا مرتين ولم يذق الا قبلة سريعة خاطفة قبل ان يذهب الى الحرب التي غيرت عالمه وعالم غيره، وزرعت البؤس والشقاء في كل قلب وكل مكان. وفي الخندق البارد بعيدا عن الجبل البارد عاش العاشق (قام بدوره جودلو) مع كتاب اهدته اياه الحبيبة (نيكول كيدمان) ومع ثلاث رسائل فقط وصلت من اصل ثلاث رسائل ومئة ارسلتها الحبيبة الوحيدة من خلف شباكها وكلها تلخصها جملة واحدة «عد إليَّ» وهي وحدها تكفي. فالتي تقول لك عد إليَّ لا تحتاج ان تفصح عن مزيد من الحب، لان الانتظار نفسه حالة عشق فريدة تضخم العواطف وتكبرها كالمرايا المجسمة، فحين لا يكون في ذهن المرأة ـ أو الرجل احيانا ـ الا خيال حبيب بعيد يصبح ذلك الحبيب جزءا من الهواء والماء والشجر، فكل عصفور يمر يحمل رسالة منه، وكل نجمة تغيب او تظهر تتحول الى رمز واشارة.

وفي الحرب كما في السلم تكون النساء عادة اول الضحايا، فالرجال يتعاركون ويتركون لهن تربية الاولاد وزراعة الارض والحفاظ على المنزل، وكلها مسائل صعبة وقاسية بوجود عصابات محلية تستغل غياب الرجال لتسرق وتغتصب وتدمر، والفيلم بحروبه على جبهات القتال وعصابات الداخل مليء بالدم والعنف والتعذيب غير المسبوق، وهل هناك اعنف من مشهد تعذيب أُم يمارس جلادوها كل ما يعرفون من سفالة لتصرخ فيخرج على الصراخ أولادها من مخابئهم ثم يقتلون امام عينيها مع زوج علقوه على شجرة قبل ان يبيدوا الأم وولديها المراهقين. وكأن هذا لا يكفي، فهناك منظر رضيع يعرُّونه من ثيابه في البرد القارس قبل ان يغتصبوا امه لتقر لهم قبل الاغتصاب بمكان المؤونة والطعام.

ان فيلم «الجبل البارد» عن الحب والحرب معا، وعلى الجبهتين تكثر الضحايا وتحس وانت تراقب الجميع بالوحدة وانعدام الأمن والكبت القاتل الذي صورته الكاميرا على شكل يد امرأة وحيدة تمتد ببطء لتمسك بيد الجندي الهارب من الجيش ليعود الى الحبيبة التي تنتظره في سريرها البارد وجبلها البارد بين اصحاب قلوب باردة يقتلون لمتعة القتل، ويحطمون في طريقهم ورود المزارع واحلام الناس.

ولو سألتني هل يستحق هذا الفيلم المشاهدة لقلت لك بكل الصدق، ورغم هذه الاوسكارات الموعودة لا تتعب نفسك الا ان كنت من هواة النكد المكثف، فعلى مدار ساعتين ونصف ليس هناك بعد مشاهد الحب المختزلة جدا غير المناظر المجسمة للعنف والدم والكوابيس.