لون هدير .. وبراءتها ..!

TT

«أنا سودة وشعري كُت كُت» قالت هدير التي لم تبلغ الربيع السادس من عمرها بعد، قالتها بصوت مصحوب بتعبيرات وجه، امتزج فيها الابتسامة الخجولة المترددة، والنظرة الغائمة الباحثة عن اجابة تمنحها الثقة، وبدا فمها وكأنه لطفلة، وعيناها لطفلة اخرى، كل ذلك اضفى على ردها بعدا ينفذ في الروح، رد جاء على سؤالي غير المقصود عندما داعبتها قائلا، «وانت عاوزة تكوني ايه، لما تكبري، يا جميل؟».

ردت «عازوه اطلع في التلافزون (التليفزيون)» بس «أنا سودة وشعري كُت كُت» ونقول كُت كُت عن الشعر الاسود الخشن. والحقيقة ان هدير لا هي سودة فعلا ولا شعرها كت كت بالضبط، ولكنها ترى نفسها كذلك، فكيف رسمت تلك الصورة لنفسها، ولماذا لا ترى عيناها إلا ما تصفه الآن، وهو غير ما تراه عيناي.

هدير هي بنت أخي، عمرها بالضبط خمس سنوات واربعة اشهر، لها أخت تكبرها بعام وهي بالفعل جميلة، ولها أخ يصغرها بعامين، وهدير طفلة الوسط المتوسطة،« تخينة شوية، وسمراء شوية، وشعرها مدعج»، رغم اننا ككبار غالبا ما نتبنى الاطفال، الا ان هدير هي التي تبنتني، اذ اعلنت ذات يوم لأختها «ان أباها هو الدكتور اللي في أمريكا» وان أمها ايضا تعيش في أمريكا، وتبيع الترمس على ناصية في سوق المدينة، وضحك أبوها الحقيقي، وضحكت أمها الحقيقية، ومنذ هذه اللحظة وهدير تناديني بلهجة اطفال الصعيد «يا بايا» في كل مكالمة وكذلك عندما تراني رغم انني لا اراها كثيرا، احببت فيها فكرة ان الأب هو أمر يستطيع الانسان اختياره، امكانية لافتة للنظر، فماذا لو هذا ممكن بالفعل، هدير تبنتني بالفعل، وربما لأنها لم ترني في المنزل الا وحيدا، او انها رأت فيّ روحا هائمة غير منظمة تحتاج الى رعاية وتهذيب. هدير تبدو لي انها روح كبيرة حانية، ودائما كنت اتصور ان العالم مكون من ارواح عادية ويومية، وبه على الاقل عشرة او خمسة عشر من انواع الارواح الكبيرة التي تجعل العالم متوازنا. ومع ذلك فهي روح بدت حزينة، ومنكسرة ومترددة.

سألت أمي وأبي وسألت أباها وأمها، عن منبع هذا الحزن وذاك الانكسار، ولماذا تحس هدير بأنها «سودة وشعرها كُت كُت» قالوا انها تشاهد معهم التلفزيون كل يوم تقريبا. وجاءت الاجابة وكأنها ضربة في بطني ومع ذلك تابعت بالأسئلة، ولكن ماذا كانت تشاهد؟!

قالوا انها كانت تشاهد معهم كل الأخبار عن حرب العراق، ولكنها كانت تفضل قناة «دريم»، وتسعد بأغنية «بابا فين» تحزن في ذات الوقت، وشاهدت الاغنية، وكان كل الاطفال في الاغنية ممن نصفهم بالبيض، فأدركت لماذا هي حزينة، قلت وهل تشاهد قنوات اخرى. قالوا كل شيء «جزيرة وعربية ولبنانية ومصرية» قلت لماذا لا تشاهدون فضائية السودان. قالوا انهم لا يعلمون بأن للسودان فضائية.

وقضيت معظم اجازتي الاخيرة اقلب في القنوات التلفزيونية، الفضائية والارضية باحثا عن وجه قريب الشبه من هدير من حيث لون البشرة والشعر، ابحث عن مذيعة او ممثلة او طفلة ابحث عن واحدة «سودة وشعرها كُت كُت».

لكنني، ورغم الساعات التي خصصتها للبحث. فشلت في المهمة.

لجأت الى حيلة اخرى وهي الانترنت، وبقايا صور تذكرت انها اخذت لي في كلية الدراسات العليا، واذكر ان بعضها كان مع زملاء من الأمريكيين من اصل أفريقي، مع أسرهم وأولادهم، وعرضت صورهم لهدير، التي نظرت الى واحدة من الاطفال، واشرقت ابتسامة من وجهها وقالت بحماس وفزعة «أنا بيضة عليها» أي انها اكثر من طفلة الصورة في البياض.

بعد لحظة الثقة هذه التي ارتسمت على وجهها، تقمصت أنا شخصية المحاضر والناصح، وبدأت بعرض يقول ان الاحساس بالجمال هو أمر ثقافي في المقام الأول، وانه صناعة الثقافة المهيمنة التي تسوق نفسها بالتكرار.

ذكرت لهم انني كنت أرى المرأة الجميلة على انها ممتلئة وبيضاء عندما كنت في مصر، ثم ذهبت الى أمريكا وتحولت صورة الممتلئة والبيضاء، كرمز للسمنة وعدم الجمال، واصبح الجمال عندي مرتبطاً بالمساحات الهندسية للوجه، وارتفاع عظام الوجنتين، وكذلك زوايا الخطوط، واخرجت لهم من الانترنت صورا لناعومي كامبل، وكذلك ايمان التي هي من اصل صومالي، والممثلة انجلينا جولي، وكذلك هالي بيري، قلت لهم انهن جميلات جدا.

وخطفت هدير الصور من يدي، واتسعت عينا أمها وكذلك عينا أختي، وهن يستمعن بعناية فائقة. «معقول!» قالت زوجة أخي وأم هدير وهي تتفحص صورة انجلينا جولي.

حرصت على ان يكون حديثي بسيطا حتى تصل الى هدير بعض الانطباعات التي تتساقط من حديثنا.

كذلك حدثتهم عن أهالي البلاد التي يشاهدون تلفزيوناتها، وقلت لهم ان مجتمعات كالسعودية وكذلك الكويت وايضا قطر والامارات، هم في الغالب سمر مثلا، وقلت لهم ان باقي أهالي مصر ايضا، ليس الجنوب فقط، هم داكنو البشرة باستثناءات قليلة، مثل بقايا الأتراك والشركس والأرمن الذين نراهم على الشاشات التلفزيونية والسينمائية، مصر ليست كالتلفزيون! الا تنظرون الى جيرانكم؟!

حدثتهم ايضا عن ان المصري الاصيل رجلا كان او امرأة فارع الطول، لا يحتفظ جسده بالدهون، ومعروف عن الرجل المصري القديم كما تقول دراسات الانثربولوجيا، انه أمرد، او على الاقل ليس له شعر في صدره، فهو رجل أفريقي، اما الشعر في الصدر فهي صفة ساميَّة وكذلك صفة آرية ـ نسبة الى الجنس الآري الأوربي.

وأكدت على ان أهالي وادي النيل كلهم لهم صفات جسدية مثلنا، طول فارع ونحافة جسد، كذلك اكدت عليهم ان صورة المرأة عندي قبل الذهاب الى أمريكا كانت من صناعة ثقافة الجوع، لذلك كانت المرأة الممتلئة والبيضاء هي رمز الجمال، رغم ان في العالم «الشبعان» تكون النحافة رمزا للجمال.

كل ذلك وهدير تستمع، ولم يصبها الملل، وكل لحظة تقلب في صور هالي بيري، وجولي، وكامبل.

تركت مصر، وما زلت اتصل بهدير مرتين في الاسبوع، مؤكدا لها ان كل من رأى صورتها من اصدقائي قال انها جميلة جدا، وانها عندما تكبر ستكون اجمل بكثير من انجلينا جولي. هدير كانت تشكرني بفرح غير واثق في نهاية كل مكالمة.

عاهدت نفسي على ان اسجل لها مجموعة من الشخصيات البارزة ممن لهم لون هدير، واشتريت طبقا فضائيا به قنوات عربية وغير عربية، اقلب فيها جميعا، وسجلت صورا كثيرة لأطفال وممثلات ومذيعات من الـCNN والـPBS قريبي الشبه منها، ولكنني تذكرت انها لا تعرف الانجليزية، وربما لا تعتقد ان هؤلاء أناس مثلها لأنهم لا يتحدثون لغة تعرفها. وحاولت في القنوات العربية فلم اجد وجها بلون هدير، فشلت للمرة الثانية. هناك وهنا.

تساءلت في نفسي كثيرا عن التلفزيونات العربية، ترى من المسؤول عن تسويق الوجه الأبيض السائد على الفضائيات على انه رمز الجمال؟! ولاحظت ان مذيعات العرب وكذلك ممثلاتهم يبدون على صورة نموذج واحد، وسأقولها بشكل فج (النموذج اللبناني) لدرجة ان الانسان لا يستطيع ان يفرق بينهن، هل الرجل الذي يختارهن هو نفس الرجل في كل القنوات؟! ام ماذا؟! من المسؤول عن تعميم هذا النموذج؟ واين لون هدير؟! اين المذيعة «السودة اللي شعرها كت كت؟» حتى تكون مثالا ونموذجا لمن ليسوا لبنانيين، وظني ان أهالي لبنان ليسوا كذلك ايضا! اطفالنا يحتاجون الى تشجيع والى نموذج او (Role Model) يشبههم قليلا، وخصوصا البنات، لماذا لا تكون هناك قوانين اتاحة الفرصة (Equal Opportunity) لماذا لا تبدو تلفزيوناتنا كما مجتمعاتنا ولماذا الاصرار على الزيف؟!

* اعتذار

* هدير، عندما تكبرين، وتقرأين هذا المقال اعذريني، فهدف كتابتي ليس التشهير بك، وانما فتح مساحات لك ولأمثالك في حياة بدا فيها الناس كنمط واحد. اني احبك، وان اجمل الالوان عندي لهو لون هدير.