مراجعة مناهج التعليم جزء من المسعى المطلوب

TT

لا بد من التكامل بين المدرسة والبيئة حتى لا تفسد الثانية ما قدمته الأولى من معارف مرتبة يجب أن تكون المدرسة وسيلة لتكوين مواطن مشبع بهويته، متمكن من الحد الأدنى من المعارف، التي تجعله قادرا على التفاعل مع محيطه ومع عصره، حتى يستطيع أن ينفع نفسه، ويكون لمجتمعه نافعا.

والنقاش الجاري حاليا في في عدد من الدول العربية حول المسألة، يماثل ما يحدث في العالم أجمع، حيث يطرح باستمرار تكييف مناهج التعليم مع متطلبات التطور. ولكنه يتميز بأنه مركز على جزئية بعينها، وهي أن تلك المناهج تلقن نظرة انغلاقية، تنطوي على كراهية الأجنبي.

قرأت في «الشرق الأوسط» 2004/1/13 أن معلمة تلقن تلميذة في الثانية ابتدائي أن الفرنسية لغة الكفار، وتنهاها عن التعامل مع جارتها لأنها مسيحية. إن كان مثل هذا في المناهج، فهي قمينة بأن تتغير.

أرى أن مناهجنا التعليمية في حاجة إلى الترشيد. وأرى بصفة عامة أن كثيرا من المسلمات التي سادت في مجتمعاتنا تخلينا عنها بضغط أو بتدخل مباشر من الأجنبي. لقد وقع منع الرق في المغرب بقرار من إدارة الحماية. وامتعض مغاربة عشرينات القرن الماضي من المنع، ورأوا فيه إبطالا لأحكام شرعية. إلا أنني أشعر أنني أكثر اطمئنانا في عقيدتي، وقد مُنع الرق، عني لو كان امتلاك الرقيق ما زال مباحا.

إن إصلاح مناهج التعليم ضرورة حيوية. ولابد أن تخضع المناهج لمراجعة دورية ليتأتى تحيينها، والتثبت من مردودية العملية التربوية وجدواها.

إننا نسلم أبناءنا للمدرسة كي يتلقوا فيها معارف مرتبة. غير انه يمكن للمدرسة أن تقوم بما عليها، ثم تتدخل البيئة لتفسد ما تم بناؤه. يجب أن يكون هناك تكامل. وهذا ما دعاني للقول إن مناهج التعليم هي جزء من مسعى عام تساعد البيئة على بلورته. ذلك أن إصلاح المناهج يمكن ألا يكون له مفعول إذا لم يكن هناك شعور عام بالمتطلبات التي يقتضيها النهوض. ومن تلك المتطلبات أن يكون هناك تجاوب بين البيئة والدور التعليمي والتربوي للمدرسة، إذ يجب أن يكون هناك مشروع مجتمعي متواطأ عليه يتوفر له النصاب الكافي الذي يؤلب قاعدة واسعة متجاوبة مع ذلك المشروع.

وقد استبشرت حقا بما صاحب التظاهرة الاقتصادية في جدة (المنتدى الاقتصادي الخامس) من مشاركة نسائية رصينة، حيث ظهرت نساء سعوديات ذوات كفاءة، ولهن مؤهلات عالية، وساهمن كخبيرات، في تحليل الأوضاع الاقتصادية لبلدهن. وتم ذلك على نحو باهر.

وتذكرت تقريرا قديما في إحدى نشرات اليونيسكو، كان قد توقع أنه في اليوم الذي تقتحم فيه المرأة السعودية سوق العمل ستحتل مقاليد القيادة عن جدارة. ومما كان قد ذكره ذلك التقرير أن الفتاة السعودية المتعلمة في أرقى الجامعات، تقبل بجدية أكبر من زميلها الفتى، لأنها تنكب على التحصيل مكرسة له كل وقتها، بينما يجد الفتى متسعا من الوقت ليقبل على متع لا تتاح للفتاة.

ربما كنت أطأ أرضا ملغومة وأنا ألمس هذا الموضوع. ولكن يجدر الانتباه إلى حقيقة كشفتها الدكتورة ناهد طاهر، الخبيرة الاقتصادية في احد البنوك، وهي أن تعطيل دور المرأة في سوق العمل يؤدي إلى خسارة اقتصادية للبلاد، وأن خزينة الدولة يمكن أن توفر 45 مليار ريال في خمس سنوات فقط، لو وقع إحلال النساء السعوديات في مناصب الشغل التي تحتلها العمالة الأجنبية.

إن ما حدث في تظاهرة جدة الاقتصادية ينبئ بأن خطوة حقيقية في مضمار التغيير قد أنجزت. وأن المشروع المجتمعي السعودي، الذي يتبلور من خلال الحوار العقلاني، الذي يجري بروح بناءة، هو عنوان لمسيرة موفقة.

لقد مررنا في المغرب بنفس المسار. ففي منتصف الأربعينات كان تعليم المرأة في طليعة ما اتجه إليه العمل الوطني. وقد عزز محمد الخامس ـ رحمه الله ـ عمل الحركة الوطنية في واجهة الحداثة، فأمر كريمته الأميرة للاعائشة، بأن تظهر في التظاهرات الاجتماعية، لتخطب في محافل يحضرها الرجال. وكان بعض الجامدين، الذين شغلوا وقت الناس بالنقاش، حول ما إذا كان حلالا أم حراما استعمال الميكروفون في جامعة القرويين، قد تربصوا بتلك المسيرة الإصلاحية، وشنعوا على محمد الخامس باعتبار أنه يشجع الإلحاد والإباحية. وكان الاستعمار قد استعمل تلك الذريعة ليدبر عزله ونفيه.

ولكن المشروع الحداثي الذي تسلحت به الحركة الوطنية، اكتسب النصاب في المجتمع، وتألبت القوى الحية برمتها، في حركة عارمة لإنجاح ذلك المشروع. إذ كانت المظاهرات تخرج من المسجد، والبرامج السياسية يتم التخطيط لها في مركز الحزب والجريدة. وانبرى علال الفاسي لبذر الفكر السلفي النظيف المتفتح على العصر، ولقيادة الحزب في معاركه السياسية، فلم يبق للرجعيين مجال لتقمص دور الدفاع عن الدين، واستعماله في ترويج أفكارهم المتحجرة.

أريد أن أؤكد بهذا أن مناهج التعليم لن يكون لها مفعول إذا لم يكن هناك التفاف حول مشروع نهضوي. وأن ملامح لهذا المشروع تتبادر للعيان الآن في السعودية. ولاغرابة في أن يكون إصلاح مناهج التعليم، وتصحيح دور المرأة متلازمين. ولا غرابة أيضا في أن المسألتين من متطلبات الانخراط في العصر.

في الكتاب الذي نشره منذ عشر سنوات، المفكر الأميركي بول كينيدي، بعنوان «الاستعداد للقرن الواحد والعشرين» تحدث المؤلف عن الرابحين والخاسرين، وذكر أن الأولين هم الذين استعدوا بما يكفل لهم الحضور في السباق. وأتى بمقارنة بليغة بين كوريا الجنوبية وغانا، اللتين كانتا في الستينات في مستوى واحد من حيث معدل الدخل الفردي (230 دولارا أميركيا)، بينما تفوقت اليوم كوريا ج على غانا عشر مرات، والحال أنها تكاد تكون بلا موارد طبيعية.

وبعد أن أبرز الاندفاع القوي لدول جنوب شرقي آسيا التي عزاها المؤلف إلى اتخاذ مناهج تعليم ملائمة، قال إن التربية كانت هي الرهان الأساسي. وذكر شيئا مهماً وهو أن الأم الكورية، تقوم تبعا للتقاليد الكونفوشيوسية بمساعدة العمل الذي يتم في المدرسة إلى حد بعيد. وهو بذلك يضع بين أيدينا المثال الحي للنتيجة التي يمكن أن تحصل حينما تتظافر المدرسة والمجتمع.