مظاهرات العراق

TT

حتى لو تضاعفت اعداد المتظاهرين في شوارع بغداد ومدن عراقية اخرى الى عشرة امثال الذين يُسَيَّرون الان في هذه الشوارع فلن يعني ذلك ان الشعب العراقي يريد، عن اكمل المعرفة والادراك وأتم الوعي والقناعة، اجراء انتخابات عامة عاجلة لاختيار اعضاء المجلس التشريعي الانتقالي الذي يشكل حكومة انتقالية تتسلم السلطة من الاحتلال الاميركي ـ البريطاني ويتولى الاشراف على ادارة الدولة العراقية خلال الفترة الانتقالية ويقترح مسودة الدستور الدائم.

حتى لو تضاعفت اعداد المتظاهرين الى عشرة امثالها او اكثر فلن يغير هذا في واقع الحال، وهو ان هذه الحشود المتظاهرة منساقة انسياقا ومدفوعة دفعا الى الشوارع، رغماً او خوفا او اضطرارا، وراء شعار وضعته اقلية ضئيلة لها هدفها السياسي الخاص، وهو شعار لا تفقهه تماما ولا تدرك خلفياته وعواقبه هذه الحشود الأمية سياسيا في اغلبيتها الساحقة.. بل ان نسبة غير قليلة من هذه الحشود أمية ابجديا، وهذه واحدة من «المنجزات» الكبرى للحقبة البعثية التي وضعت العراق واهله في عزلة قاتلة.

والواقع ان اكثر ما يجري في العراق الان على صعيد «العمل الجماهيري» لا يختلف في جوهره، او حتى في مظهره، عما كان سائدا في العهد البائد. فبدلا من 25 مليون صورة لصدام حسين تمتلئ شوارع المدن والقرى العراقية الان بـ100 مليون صورة لزعماء سياسيين ودينيين، احياء وامواتا! وبدلا من شخص واحد، هو الدكتاتور السابق، كانت الشعارات والهتافات تمجده وتؤلهه، صار لدينا الآن دزينتان او ثلاث من الدكتاتوريين الذين تردد حشود المتظاهرين اسماءهم مقرونة بالعبارات نفسها التي كانت تنتجها وتوزعها على الجماهير مقرات حزب البعث ودوائر الأمن والاستخبارات.

الداني والقاصي يعرف ان موجة المظاهرات الحالية تقف وراءها احزاب الاسلام السياسي (الشيعية تحديدا) وإن حاولت الاختباء وراء لافتة «الحوزة العلمية» أو التغطي بعباءة آية الله علي السيستاني من دون ترخيص منه.

قيادات هذه الاحزاب تعرف، مثلما يعرف حتى انصاف العقلاء، ان اوضاع العراق الحالية ليست مناسبة لاجراء انتخابات عامة، حرة ونزيهة. فالانتخابات على النمط الديمقراطي ـ وليس على النمط البعثي الذي تريده هذه الاحزاب ـ ليست مجرد صناديق اقتراع واوراق تحمل قوائم باسماء المترشحين. انها قبل هذا معرفة الناخبين معرفة كاملة وتامة وواعية لماذا يقترعون وعلى ماذا يصوتون ومن ينتخبون. وهي، قبل هذا ايضا، توفير الاجواء الآمنة والمستقرة. وهي، قبل هذا كذلك، توفير الجهاز الاداري الكفء اللازم لانتخابات حرة ونزيهة. وبالطبع فان قيادات احزاب الاسلام السياسي (الشيعية تحديدا) تعرف تمام المعرفة ـ كما يعرف حتى انصاف العقلاء ـ ان هذا كله لا يتوفر في العراق الآن.

هذه الاحزاب، في الواقع، لا ترغب في دستور ديمقراطي ولا تريد نظاما ديمقراطيا.. فما تسعى اليه هو دستور ونظام استبدادي وطائفي على النمط الايراني الذي يضيق ذرعا به ليس فقط الشعب الايراني وانما حتى اهل النظام انفسهم، وهو نمط لا يوافق العراق والشعب العراقي بأي حال.

[email protected]