أميركا في مطلع سنة انتخابية.. استراتيجية مختلفة ورئيس مرتاح

TT

مع بداية السنة الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية، يبدو الرئيس بوش في موقع مريح لكسب السباق المرتقب، على الأقل على صعيد السياسة الخارجية التي استأثرت باهتمامه خلال السنوات الثلاث التي أمضاها في السلطة.

وفي الشهر الأخير من السنة المنصرمة حققت الإدارة الأمريكية ما يبدو ثلاثة انتصارات رمزية على الصعيد الدبلوماسي، تلتقي في كونها تمت على الخارطة الشرق أوسطية، التي هي بدون شك العقدة المستعصية في الرهان الاستراتيجي الدولي.

وهذه الانتصارات هي القبض على الرئيس العراقي السابق صدام حسين الذي اعتبرته الدوائر الأمريكية الفصل الأخير من حرب كانت ذيولها العسكرية والسياسية أقسى من أيامها القصار، والاتفاق مع القيادة الليبية بشأن برامج التسلح، والاختراق على الجبهة الإيرانية المستعصية خلال الزلزال الأخير. تنضاف إلى هذه «الانتصارات الرمزية» عودة التوافق مع الشركاء الأوروبيين بعد الأزمة العنيفة التي تولدت عن إدارة الملف العراقي، وبروز مؤشرات على المرور من الحالة الانتقالية في أفغانستان ما بعد طالبان إلى وضع ديمقراطي مستقر.

وحتى على الجبهة الفلسطينية ـ الإسرائيلية برزت مؤشرات خافتة على احتمال تجدد «المسار السلمي» إثر إعلان جنيف الذي اقترح نمطًا من التسوية تبنتها باستحياء الدوائر الأمريكية، واعتبرتها إطارًا لحلّ مرتقب تعمل جاهدة على تقريبه من صيغة الفصل التي يطرحها رئيس الحكومة الإسرائيلية شارون.

بيد أن هذه الصورة التي تبدو براقة تخفي جوانب الإخفاق الجوهرية في استراتيجية أمريكية قامت منذ أحداث 11 سبتمبر 2001 على مفارقة استخدام التفوق العسكري الكاسح لحسم صراعات سياسية متعددة الأبعاد، ومتشعبة الخلفيات والمناحي.

فإذا كانت الرؤية الاستراتيجية الأمريكية الجديدة تقوم على نشر قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان التي هي أساس النموذج الأمريكي، فإن اختزال هذه الرسالة في محاربة الإرهاب وإسقاط الأنظمة الداعمة له أضفى بعد العسكرة والعنف على هذا التوجه القيمي، وحوله بالتالي إلى عنصر مواجهة وعامل تأزيم دائم لوضع قابل للتفجر.

ومن هنا عجز إدارة الرئيس بوش عن استمالة القوى المجتمعية المحلية المستفيدة ضرورة من التغيير، نتيجة لطبيعة وشكل وخلفية التدخل الأمريكي، حتى في الساحات التي نظر فيها بدءاً إلى القوات الأمريكية بصفتها قوات تحرير، كما هو شأن أفغانستان والعراق.

إن هذا التذبذب والغموض يطغيان على الأدبيات السياسية الأمريكية الأخيرة، ومنها المقال الهام الذي كتبه وزير الخارجية كولين باول بمناسبة السنة الجديدة، ونشرته صحيفة «نيويورك تايمز» في الأول من يناير الجاري. ففي حين يعيد النغمة المألوفة لدى أركان الإدارة بتلخيصه أهداف السياسة الخارجية الأمريكية في نشر مبادئ الحرية وتدعيم التجارب الديمقراطية الناشئة في العالم وتوثيق الشراكة الدولية، إلا أنه يختزل برنامج عمل حكومة بلاده في نهج الحرب الوقائية التي تطرح إشكالات جوهرية في مستوى شرعيتها وفاعليتها.

فمن الواضح اليوم أن الانتصارات العسكرية التي حققتها الولايات المتحدة في حربها المعلنة ضد الإرهاب في أفغانستان والعراق لم تفض إلى النتيجتين المتوقعتين منهما وهما: النتيجة الآنية، أي القضاء على بؤر الإرهاب والعنف المرشحة للتفاقم في غياب استراتيجية بناء سياسي ناجح، والنتيجة الآجلة أي «فضيلة العدوى الآلية»، أي التأثير الإيجابي في المحيط الإقليمي بالانفتاح الديمقراطي والإصلاح الثقافي والاجتماعي.

وكما يبين زكي العائدي في مقالة أخيرة في صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية، فإن ميزة حرب العراق الأخيرة تتمثل في انها بلورت ثلاثة منطلقات جديدة في صلب الاستراتيجية الأمريكية هي: مفهوم الحرب الاستباقية الذي تمت الإشارة إليه، وهدف عسكري ـ سياسي هو مواجهة أسلحة الدمار الشامل، وغاية سياسية آيديولوجية هي إسقاط النظام المارق «الخارج على الشرعية».

صحيح أن بعض هذه المبادئ التي يشير إليها العائدي ليست جديدة، لكن الجديد بالفعل هو تزامنها وترابطها، بغض النظر عن هدفها ووجاهتها، وقد أصبح من الواضح اليوم زيف فكرة التهديد العراقي للمصالح القومية الأمريكية وعلاقة النظام البائد بتنظيم القاعدة، كما أن أسلحة الدمار الشامل لم يعثر عليها بعد تسعة أشهر من التنقيب المتواصل الحثيث، وقد تضاءل الأمل إلى حد بعيد في إمكانية اكتشافها.

وكما يبين العائدي فإن التجربة العراقية تكشف عن صحة قاعدة «خضوع القوة لقانون المردود المتناقص»، أي الانزياح بين عناصر القوة الهائلة والمكاسب الفعلية التي توفرها، بمعنى أنه في ما وراء حد معين تفقد القوة فاعليتها.

ففضلا عن انعدام مركز للتهديد الإرهابي، بما يفسر تشتته وانتقاله من مكان إلى آخر، وبالتالي يزيد من مصاعب مواجهته، فإن الولايات المتحدة بدأت تكتشف أن قوتها لا تعفيها من الحاجة لحلفاء وشركاء، في حين يتناقص عدد المستعدين والمترشحين لهذه المهمة الخطرة.

فحرب العراق الأخيرة، فضلا عن كونها لم توقف ديناميكية الإرهاب، ولم تنه التهديد الذي يمثله حكمت على الولايات المتحدة بالعزلة داخل منظومتها الجيوسياسية، سواء تعلق الأمر بأطر تحالفها التقليدي مع أوروبا أو بعلاقتها بمجالها الحيوي في آسيا.

صحيح أن هذا الشرخ لا يعني، على عكس الصورة السائدة، القطيعة الحاسمة والتناقض الجذري، وإنما يعكس مؤشرات واتجاهات رهان استراتيجي جديد محوره الاستقطاب الأوروبي بين وشائج ومحددات الشراكة مع الولايات المتحدة والاتجاه نحو الشرق (الفضاء الأورو ـ آسيوي) الذي يعتبره إمانويل تود خط المستقبل الذي سيعوض في المدى المتوسط واقع الهيمنة الأمريكية.

وفي الوقت الراهن تواجه الإدارة الأمريكية ثلاثة تحديات صعبة متولدة عن المصاعب الجمة التي تفرض إدارة بوش في الساحة الدولية:

1 ـ التوفيق بين الأهداف والخلفيات القيمية للرسالة الاستراتيجية والصيغ السياسية والآليات التنفيذية المطروحة لتجسيدها (التدخل الانتقائي وازدواجية المعايير والغلو في استخدام العنف...).

2 ـ حسم الخيار الاستراتيجي بين اتجاه الأحادية الذي تقتضيه آديولوجيا الهيمنة التي يتبناها التيار المحافظ المسيطر على مركز القرار في واشنطن واتجاه الشراكة التعددية الذي تفرضه المعطيات الدولية في عالم وحده الاقتصاد وتقنيات الاتصال الجديدة والرهانات المتشابكة.

3 ـ التوفيق بين آلية التحطيم الهائلة والناجعة التي يوفرها التفوق العسكري الكاسح الذي سمح للإدارة الأمريكية بالانتصار العسكري السريع والباهر في شتى ساحات المواجهة التي دخلتها في السنوات الأخيرة، ومؤهلات البناء السياسي والمؤسسي على دمار الأنظمة والتوازنات الإقليمية المنهارة.