المسقوف والمخلل وأسلحة الدمار الشامل

TT

في الفيلم الوثائقي الممتاز «إنسَ بغداد» الذي يتناول جانبا من محنة اليهود الذين هاجروا من العراق، تروي الباحثة ايلا شوحاط التي تعمل حاليا في احدى جامعات نيويورك، ان والدتها العراقية كانت ترسل معها الى المدرسة، وهي طفلة: لفافة طعام تتناولها مع رفاقها في فسحة الظهيرة.

وكانت تلك اللفافة، في اغلب الايام، وجبة شعبية عراقية معروفة باسم «عنبة وصّمون». اي سندويش ثمار المانجا المخللة بالتوابل والكاري.

ولأنها كانت تخجل من سخرية التلاميذ بسبب الرائحة التي تفوح من حقيبتها، تقول ايلا شوحاط انها كانت ترمي اللفافة في سلة القمامة قبل الدخول الى المدرسة، رغم ادراكها ان تلك الوجبة هي ألذ بكثير من الطعام الذي يجلبه التلاميذ الآخرون (الغربيون) من بيوتهم.

***

لم اعرف في بغداد، واتولع، الا بالمانجا المخللة، اما الطازجة فقد عرفتها بعد ان كبرت وسافرت الى بيروت والقاهرة. ولما استقر بي المقام في باريس، دعيت الى مطعم صيني مع بعض الاصدقاء.

وكانت قائمة الحلويات تقترح طبقا من المانجا الطازجة. وقد ارتأى صديق فلسطيني ان يجرب ذلك، وجيء له بالثمرة مبردة ومقشرة ومنزوعة النوى ومقطعة ومقلوبة على احشائها بشكل شهي يغري بالالتهام.

ثم جاءت الفاتورة، وفوجئ صديقنا بسعر طبق الحلوى الذي كان يوازي سعر الطبق الرئيسي. واحتبست الفاكهة اللذيذة في بلعومه من القهر. وراح يحسبها على طريقته قال ان اباه يملك في عرعرة، قرب أم الفحم، عدة دونمات زراعية، بينها دونم (يلفظها دُلم) مزروع بالمانجا. وان السعر الذي يطلبه هذا الصيني في ثمرة واحدة يعادل سعر خمسة كيلوات في بلاده.

قلنا له ان اسعار باريس ليست اسعار أم الفحم وان هذه الثمار مستوردة، وكل مستورد غال. رد علينا وهو يواصل الحساب: «ولو! لنفترض انهم جاءوا بها الى فرنسا بالطائرة. لنفترض انهم قطعوا لها تذكرة في مقاعد الدرجة الاولى. لنفترض ايضا، يا سيدي، ان العامل الذي نزع نواها وفصّلها مقلوبة على البطانة هو سان لوران.. هل هذا سبب لأن ادفع فيها ضعف ثمن الوجبة الدسمة التي اتناولها يوميا في مطعم تركي»؟

***

وما دمنا في التركي، لنعرج على الارمني. فقد اعتاد صديقنا الرسام الراحل أرداش كاكافيان ان يحمل في سفراته قناني العنبة كهدايا الى اصدقائه في الخارج. وروى لي يوما وهو يغص بالضحك وكرشه يتنافس مع لحيته في الاهتزاز، ان نجيب محفوظ قال له معاتبا بظرف: «هوه فيه مجنون يعمل من المانجا الحلوة مخلل غيركم؟». صدقت يا سيدي. نعم، شعب يتفنن في تحويل كل حلو الى مخلل لاذع، ولنا في هذا الباب طقوس وتقاليد، وما عليكم سوى متابعة الاخبار.

***

ما الذي حط بالعنبة على اوراقي في هذا الصباح الغائم؟

انها رزمة وصلتني من صديقة عراقية تقيم في ديترويت، تضم زجاجة عنبة من نوع فاخر، وبطاقة تتمنى لي فيها عاما افضل من السابق، هل يكون عامي الجديد مانجا حلوة؟ وهل هذه الا من تلك وتلك من هذه؟

تصورت، لبرهة، ان هذه العنبة من ابداع مهاجرينا في اميركا. لكني عندما تفحصت الزجاجة، وجدت ـ أويلاخ! ـ انها مستوردة من اسرائيل. لماذا العجب وقد اعتدت ان اشتري التمر البرحي، هنا في باريس، مستوردا لا من البصرة وانما من النقب! ما الذي بقي لنا؟ السمك المسقوف؟ لا تتفاءلوا، واعلموا ان احدث كتاب صدر هنا بعنوان «المطبخ اليهودي» يفرد للمسقوف فصلا خاصا. ومؤلفة هذا الكتاب، الذي يلقى رواجا كبيرا، هي كلوديا رودن، اليهودية المولودة في القاهرة، وهي تعتبر مرجعا في ميدانها، وعملت محررة لزاوية الطبخ في اشهر الصحف البريطانية، واذيعت وصفاتها من «البي. بي. سي»، وهي فوق ذلك مؤرخة وباحثة وعالمة اجتماع، وتدعى لالقاء محاضرات عن الطعام في كل انحاء العالم.

في فصل عن مطبخ يهود ما بين النهرين، تشير كلوديا رودن الى القوزي (الخروف المحشي) بأنه أكلة بدوية احبها يهود بغداد وكانوا يقدمونها في حفلاتهم وافراحهم. اما المسقوف، اي السمك المشوي في العراء على الطريقة البغدادية، فتقول انه كان أكلة الافراح الصيفية لدى اليهود، حيث يدعى البلاّمة (اصحاب الزوارق) للقيام بعملية السقف. وفي الكتاب، الى جانب هذا الكلام، صورة لاسرة ساسون الشهيرة التي هاجر بعض افرادها الى بومباي واسسوا الجالية اليهودية هناك. ولا شك انهم مارسوا كل فنون التجارة بين الهند والعراق ومنها تجارة العنبة التي كانت تأتي بالبراميل الخشبية، عبر البحر، الى البصرة، قبل ان تباع مجزأة في قناني تحمل علامة السفينة.

***

هل عرفتم الآن لماذا اؤيد السلام مع اسرائيل؟

اخاف ان تفرغ جعبتنا مما بقي فيها من فتات، وان يسلبوا منا كل شيء. لقد اخذوا التطريز الفلسطيني ونسبوه لأنفسهم، ولطشوا الفلافل، والبلح البرحي، والعنبة، وحتى المسقوف، ونحن ها هنا قاعدون ولم يبق سوى ان تسطو طلائعهم الزاحفة على بغداد، على البطم والحبة الخضراء والسسي، وتلك ثالثة الاثافي.

ما البطم وما السسي؟

انها اسماء حركية لاسلحة دمار شامل مخبأة في كتيبة سرية تدعى «جرزات الموصل» واذا اعيتكم الحيلة ولم يسعفكم القاموس المنجد، اسألوا عراقيا يأتيكم بالخبر اليقين.