رغبة في حياة كريمة.. وليس حبا في موت عبثي

TT

صحيح ان مشاعر الامومة ومشاعر التضحية كانت تتصارع في قلب ريم الرياشي. صراع غريب من نوعه، لانها ام لطفلين وزوجة وفية. قالوا انها كانت زوجة ناجحة بكل المقاييس، تحب زوجها وعائلتها. في لحظة من اللحظات كان عليها ان تقرر. لكن، على ما يبدو، كانت ريم طوال سنوات تبحث عما يطفئ ظمأ حزنها ولوعتها والحسرات الكثيرة التي سكنت قلبها. كانت ريم تعيش في حي الزيتون الذي تعرض لاكثر من مرة لعمليات اجتياح اسرائيلي واسعة النطاق، ارتكبت فيه مجازر وهدمت بيوت ونسفت مصانع وورش ومحلات تجارية. ريم شاهدت ـ كما شاهد الكثيرون ـ مشاهد مروعة: جثث على الارض، دماء على الجدران، صراخ نساء واطفال هاربين من جحيم الاباتشي في بهمة الليل. ماذا يتوقع المرء حينها من الفلسطيني؟ هل يتوقعون ان يفكر بمنطق الذين يعيشون حالة من الاسترخاء والتنعم وراحة البال ؟ ولماذا يستكثرون على الفلسطيني ان يضحي من اجل وطنه.هذا الاسبوع سألتني صحافية اجنبية: أهي ثقافة الموت؟ قلت لها لا. اننا نقدر الحياة جيدا ونعرف معناها ونبحث كيف نوفرها لابنائنا كريمة، لكن الاحتلال سلبنا هذه الحياة وحولها الى غصة وعذاب ومرارة يومية. صحيح ان طفلي ريم اصبحا يتيمين لكن هناك ايضا الاف الاطفال الفلسطينيين الايتام الذين فقدوا اباءهم وامهاتهم بفعل الصواريخ او قذائف الدبابات، وهناك مئات الاطفال الذين اصبحوا معاقين بفعل رصاص «الدمدم»، الذي اخترق عمودهم الفقري، وهناك عشرات العائلات التي ابيدت بالكامل. ريم، جزء من الشعب الفلسطيني، الذي يتعرض الى حرب الابادة الجماعية، فينتفض ابناؤه بمعزل عن جنسهم: ذكورا، او اناثا، متزوجين او عازبين، لمواجهة الة الحرب الاسرائيلية، رغبة في الحياة الكريمة وليس حبا في الموت العبثي. الذين يدعون بان الذين ارسلوا ريم «ليسوا بشرا ولا يعرفون قيمة الامومة» هم مخطئون بالتأكيد، لان الامومة لا يمكن ان تتعارض مع التضحية للوطن. لدينا في الواقع الفلسطيني اباء لديهم عائلة كبيرة اصبحوا في عداد الاستشهاديين، وهناك ايضا الطلاب الذين كان امامهم مستقبلهم زاهر، فضحوا به، ، وهناك من ضحى بثروته، وذاك ضحى بمصدر رزقه. ريم ايضا فضلت ان تنضم الى قائمة المنتفضين على واقع السوء، املا ان يحيا ابناها وابناء شعبها واقعا آخر، اكثر اشراقا. لذا فانه قياس صحيح ومنطق مقبول بالذات في عرفنا الفلسطيني القائم على مواجهة حقائق البغي والظلم التي كرسها الاحتلال، في ظل صمت العالم. نحن كفلسطينيين اختفت من قاموسنا جميع المفردات الاخرى. لم نعد نسمع: «فلان استشهد، فلان اصيب، الليلة حدث اجتياح، امس هدموا منازل في رفح، اعتقلوا …وقفنا على الحاجز...». اختفت لغة التفاوض والمسيرة السياسية و«مستقبل سنغافورة» حتى السلطة غابت عن اذهان الناس. ريم الرياشي كانت تفكر في الشيء ذاته، ثم قررت ومضت.اعتقد ان هناك مئات - ان لم يكن الافا من الفتيات - يردن السير في نفس مسار ريم ، لان قسوة الاحتلال وحدت مشاعرنا جميعا: رجالا ونساء، صغارا وكبارا. قبل الانتفاضة كانت هناك صعوبات كثيرة لدى فصائل المقاومة في تجنيد استشهاديين، لكن اليوم هناك «جيوش» منهم. وصدق الصحفي الاسرائيلي يوئيل ماركوس حين قال في صحيفة «هارتس» ان «الشاباك الاسرائيلي نجح في قتل واعتقال عشرات الخلايا الفدائية الفلسطينية لكن بقيت خلية واحدة تتكون من ثلاثة ملايين ونصف مليون فلسطيني». ريم كانت من هذه الخلية الخلية، وقد يظهر مثلها كثيرون. الذين شككوا في مشاعر امومة ريم نسوا شيئا او اشياء كثيرة: لم يتذكروا كيف كانت تبكي ام الرضيعة «ايمان حجو» على ابنتها التي اختلط حليبها بدمها، بعد ان فتتها قذائف الغاصبين، ونسوا كيف كانت ام محمد الدرة تبكي وهي تشاهد ولدها يموت ببطء،و نسوا كيف كانت تبكي ام اخرى قتل ابنها في حضنها في مخيم جنين. حين تجري المقارنة، يتوجب مناقشة القضية بموضوعية وليس على اساس «فويل للمصلين». القضية لم تقف عند ريم، بل وصلت ايضا الى قادة حماس، حيث غالى المهاجمون واتهموهم بانهم يرسلون «اولاد الناس» الى الموت فيما هم يحافظون على حياتهم. الرد هنا بسيط ويستند الى الحقائق والارقام. اكثر القيادات الفلسطينية التي تعرضت الى عمليات الاغتيال او الاعتقال هم قادة حماس، حتى انه لم يكد يسلم واحد منهم. تذكروا: صلاح شحادة (اغتيل).. ابراهيم المقادمة (اغتيل).. اسماعيل ابو شنب (اغتيل).. جمال منصور (اغتيل).. جمال سليم (اغتيل).. الشيخ أحمد ياسين (محاولة اغتيال).. عبد العزيز الرنتيسي (محاولة اغتيال ).. اسماعيل هنية (محاولة اغتيال).. محمود الزهار (محاولة اغتيال).. هذا عدا عن القيادات العسكرية التي اغتيلت، جميع اعضاء القيادة السياسية والعسكرية، فضلا عن اعضاء الصف الثاني والثالث في حماس، في الضفة الغربية، اما قد تم اغتيالهم او اعتقالهم او انهم مطاردون. هناك كثيرون من قادة حماس فقدوا ابناءهم سواء بالاغتيال او المشاركة في عمليات فدائية. قادة حماس رفضوا عرضا امريكيا لضمان عدم المس بهم مقابل وقف العمليات فرفضوا. قادة حماس كانوا دائما على رأس اولويات جيش الاحتلال، والحرب التي اعلنت على حماس انضمت اليها واشنطن والاتحاد الاوروبي، فكيف نفسر الامور بمنظار الطعن والتشكيك القائم على الرؤية القاصرة والافتقار الى الدليل؟ هذه «المزاودة» يجب ألا يكون مقامها هنا، لا على حماس ولا غيرها من الفصائل، لأن الذين يبحثون عن سلبيات ومثالب في حمأة الصراع سيجدون بلا شك ما يشبع نهمهم العبثي لكنهم ـ بالتأكيد ـ لن يجدوا آذانا صاغية، لأن صوت هدير الدبابات وصواريخ الاباتشي وصراخ الاطفال والنساء وسط الليل سيطغى على صوتهم.

* رئيس تحرير جريدة «الرسالة» المقربة من «حماس» ـ غزة