في الإقصاء وعقله..

TT

الإقصاء والإقصائية هي نوع من الفكر والممارسة التي لا ترى إلا نفسها، ولا تعيش إلا بنفسها. وسواء كان الحديث في الثقافة أو السياسة أو الاجتماع، فإن الخطاب الإقصائي، وما يقف وراءه من عقل إقصائي، واحد في كل هذه الأمور. فالعقل الإقصائي «صُمم» وفق نسق لا يعترف بغير ذاته، ولا يرى إلا من خلال ذاته، وبذلك فإنه يشكل عائقاً أمام كل جهد إنساني يحاول أن يجعل الحياة أرقى وأجمل. ومن هذه الزاوية، فإن العقل الإقصائي ينفي حق الوجود عن كل فكر أو سلوك لا ينطلق من ذات النسق الذي يحدد معالم الحقيقة وحدودها لديه. وبذلك، فإنه يمكن القول ان العقل الإقصائي هو البنية التحتية الخفية لكل فعل عنفي. فالعنف، في خاتمة المطاف، هو الإقصائية في أعلى درجاتها، ولا عنف من دون بنية فكرية تبرره وتسوغ له الفعل. فالعنف يبدأ في العقل ثم يتحول إلى السلوك في النهاية. وعندما نتحدث عن العقل الإقصائي، فإن الحديث ليس منصباً على تيار معين من دون آخر، كأن يكون تياراً دينياً أو غير ذلك، ولكنه حديث عن بنية ذات العقل، بغض النظر عن العباءة التي يتلفع بها، كأن تكون دينية أو دنيوية، يمينية أو يسارية، قومية أو وطنية. من أجل ذلك، نجد أن العقل الإقصائي، على اختلاف عباءاته، هو الذي يقف وراء أكثر الكوارث في التاريخ البشري. فإقصائية قابيل هي التي دفعته في النهاية إلى التخلص من أخيه هابيل. فقبل أن يقتل قابيل هابيل، كان هناك عقل إقصائي يبرر له فعلته وييسرها على نفسه، فجاء الفعل نتيجة منطق ذاك العقل، وليس لذات الحادثة التي كانت مجرد شرارة أشعلت آليات العقل كي يسوغ ويبرر. وقد كان العقل الإقصائي سبباً رئيسياً من أسباب الانحطاط في تاريخنا العربي الإسلامي. فسيادة العقل الإقصائي وخطابه، تقف وراء توقف ذلك التاريخ عند نقطة معينة لا يريم عنها، فكان أن انطلق الآخرون، وبقينا نحن نراوح في المكان وفي الزمان.

وفي تقديري، فإنه كي نستطيع الوصول إلى فهم صحيح، أو يحاول أن يكون صحيحاً، لفهم ظاهرة «الإقصائية» بشكل عام، وفي الخطاب العربي، القديم منه والحديث، بشكل خاص، فإن علينا أخذ أبعاد كثيرة في الاعتبار، منها ما هو اجتماعي تاريخي، ومنها ما هو سياسي، بالإضافة إلى ما هو بعد ثقافي وفكري بحت، وذلك كي يتكامل فهم هذه الظاهرة، وآليات العقل المنتج لها. فالتركيز على البعد الفكري فقط وتفنيده قد يكون مهماً، وهو مهم، من حيث البرهنة على أن الإقصاء والإقصائية مناقضة للعقل والمنطق وحتى جوهر الحياة، ولكن ذلك لا يكفي لمعرفة كافة الأبعاد. فالفكر مثلاً لا يأتي من فراغ، كما أن الواقع لا يتشكل بدون فكر قد يكون نتاج ذات الواقع في التحليل الأخير، ومن هنا جاءت أهمية فهم البعد الاجتماعي والتاريخي، أو لنقل السياق التاريخي لهذه الظاهرة، بالإضافة إلى مضمونها الفكري والثقافي. وبصفة عامة، إلا استثناءات هنا وهناك، فإن الحقيقة التاريخية تقول ان تاريخ الفكر العربي عموماً يرينا أن العقل الإقصائي، في معظم مراحل هذا التاريخ، كان هو السائد في ذلك الفكر، وطوال فترات التاريخ العربي. فالفكر العربي كان في غالب أدواره مقيداً بحمولات ايديولوجية مكثفة، تدفعه دفعاً إلى ممارسة الإقصاء، بحيث أنه لا يمكن أن يوجد فكر معين إلا بزوال فكر آخر، ولعل في صراع أهل الحديث وأهل الرأي، أو الحنابلة والمعتزلة مثلاً، وتبادل الأدوار بينهما بصورة صفرية، أي لا وجود لأحدهما إلا بانتفاء الآخر، صورة لمثل هذا الوضع، وإلا فإن الأمثلة كثيرة. بمعنى آخر، فإن التعددية الفكرية لم تكن صفة من صفات تاريخ الفكر العربي في معظم مراحله، وذلك عائد لعدة أسباب.

فمن الناحية السياسية، لم تكن الدولة السلطانية العربية التقليدية، ومن بعدها الدولة الشمولية «الحديثة»، تسمح بتعددية الفكر، لما قد يتضمنه ذلك من تعددية سياسية قد يكون فيها خطر أو تشكيك في شرعية ذات الدولة. فالدولة في التاريخ العربي، قديمة وحديثة، إما أن تكون لهذا الطرف أو ذاك، ولكنها لا يمكن أن تكون للجميع، وهذا يتضح من المعني الحرفي لكلمة «دولة» في اللغة العربية، التي تعني في ما تعني، تداول الأمر أو المال أو غير ذلك، تداولاً يعني في نهاية الأمر الاستفراد بالأمر أو المال. انتفاء التعددية السياسية في التاريخ العربي أدى إلى انتفاء التعددية الفكرية، لتعود الأحادية الفكرية لتشرعن للأحادية السياسية التي بدورها تحمي الأحادية الفكرية، حيث أن كلاً منهما شرط لوجود الآخر، وذلك في دائرة مغلقة أصبحت سمة من سمات التاريخ العربي.

ومن الناحية الاجتماعية، فقد كان المجتمع دائماً، وفي معظم مراحله، خاضعاً بشكل أو آخر لهيمنة نمط معين من التفكير والسلوك، يُعد الخروج عليه نوعاً من الخروج على ذات الجماعة، أو شذوذاً تجب محاربته، ومن هنا تأسس العقل العربي على أحادية الحقيقة التي يجب أن تكون واحدة لا ثانية لها، وهنا تكمن بذرة الإقصائية والعقل الإقصائي في جل تراثنا الفكري وتاريخنا السياسي والاجتماعي. ومن ناحية أخرى، فإن الإقصائية والأحادية الفكرية قد تكون تعبيراً عن مصالح فئوية وطبقية معينة، تكون مهددة في صميمها في ما لو كانت التعددية على اختلاف أشكالها، هي النمط السائد والمعترف به. تضافر الأحادية السياسية والاجتماعية أديا إلى ترسيخ الأحادية الفكرية كشيء من طبيعة الحياة وطبيعة الحقيقة التي لا تقبل التعدد، والتي بدورها عادت لترسيخ الأحادية السياسية والاجتماعية. قد يكون هذا هو حال العالم كله في فترات تاريخية معينة، ولكن المشكلة العربية تكمن في أن الوضع هو ذات الوضع منذ «السلطنة» في مختلف أشكالها الماضية، وحتى «الشملنة» المعاصرة على اختلاف أنماطها، وكأن الزمن العربي قد توقف في مثل هذه القضايا.

المراد قوله هنا هو أن الفكر الأحادي، وهو إقصائي بالضرورة في منطقه الداخلي، هو السائد في المنطقة العربية، على اختلاف في الدرجة بين هذا المجتمع العربي وذاك، رغم تغير البنى الاجتماعية نتيجة الحداثة المقتحمة، وهنا تتشكل الأزمة. فمجتمعات اليوم العربية، معقدة وتعددية نتيجة قوى التحديث، ولكنها بسيطة وتقليدية في بناها الثقافية والفكرية، حتى في تلك المجتمعات التي أوحت ذات يوم أنها تسير في طريق التعددية الفكرية والسياسية، ومن هنا تصبح قضية الإقصاء والإقصائية قضية حياتية قبل أن تكون قضية فكرية بحتة، أو نوعاً من الترف الفكري غير المبرر. سيادة العقل الإقصائي في مثل هذه الحالة تعني إعاقة للصيرورة الاجتماعية، وشلاً لتطور المجتمع وآليات الفعل فيه، وذلك مثل شاب بدأ جسده في النمو، ولكن أهله لا يريدون الاعتراف بهذه الحقيقة، فيستمرون في معاملته كطفل يحتاج إلى الرعاية والوصاية، وحشره في ثياب طفولة ضاقت عليه. وهنا أحد الأسباب المهمة التي جعلت من التاريخ العربي عموماً حالة من السكون والركود، بحيث أصبح في معظم مراحله، بل لنقل أكثرها، مقيداً بفكر إقصائي غير قادر على التواؤم مع حركة المجتمع وتطوره، فكانت الإعاقة هي النمط السائد في حركة المجتمعات العربية، في ذات الوقت الذي انطلقت فيه مجتمعات أخرى عندما لبست الثوب الثقافي المناسب، وتخلصت من عقل الإقصاء وهوس الوصاية.

ومن الناحية الفكرية الخالصة، فإن الفكر الإقصائي يقوم على أسس تتناقض مع طبيعة الحياة ذاتها، ومع طبيعة الحقيقة نفسها. فالحياة بطبيعتها تعددية في كل أبعادها. ومن ناحية ثانية، فإن الحقيقة، التي يقول بوصلها الكثيرون، ويتمنى وصلها الكثيرون، هي بطبيعتها نسبية. يقول بطل رواية «حدائق الله» للصافي سعيد، «إن حب الحقيقة هو جهاد الإنسان على الأرض، أما الحقيقة نفسها فربما لا توجد إلا في السماء». فنعم كل يتوق للحصول على الحقيقة، ولكن هذا التوق لا يعني أن أحداً يمتلك الحقيقة. الحقيقة موزعة بيننا، وكل يراها من جانب أو زاوية معينة، ومن مجموع هذه الرؤى، الممتدة عبر الزمان وعبر المكان، تتشكل الحقيقة في صيرورة مستمرة ومتصاعدة في سعيها للكمال، ولكنها لا يمكن أن تصل إليه، فالكمال يعني نهاية الحياة كما نعرفها. السعي نحو الكمال هو محفز الحركة والفعل، ولكن امتلاك الكمال مسألة لا يمكن أن تحدث، إلا في عالم آخر ربما. أما أن يأتي أحدهم ويدعي ملكية هذه الحقيقة بكل أبعادها، أي الحقيقة المطلقة التي تتسامى على الزمان وعلى المكان وعلى الإنسان، فإنه إنما يناقض طبيعة الحقيقة ذاتها، ومن هنا تبدأ بذرة الإقصاء وتتنامى جرثومة النفي. فالذي يعتقد، بل من يجزم بامتلاك هذه الحقيقة إنما يفترض، بل وهو يجزم أيضاً، أن من لا يؤمن بمثل ما يؤمن به فإنه معاد للحقيقة، وبالتالي لا بد من «إزاحته» جانباً من حيث أنه عدو للحقيقة. وبذلك فإن الإقصائية بذرة كامنة في كل فكر أحادي، أي كل فكر صادر عن عقل لا يرى الحقيقة إلا من جانب واحد، هو الجانب المطلق الذي لا يأتيه الباطل من أي اتجاه في ذهن معتنق هذا الجانب. فلم لا نتواضع قليلاً، ونعلم أن الحق المطلق لا يعرفه إلا الحق نفسه، وما نحن في هذه الحياة إلا مجتهدون قد نصيب وقد نخطئ. من هذا الإيمان البسيط يمكن أن تبذر بذور التسامح، فيسود التعايش بدل النفي والإقصاء، وننطلق إلى صناعة الحياة، بدل انتحار جماعي هو الناتج المنطقي لفكر النفي وعقل الإقصاء.