السياسة الخارجية الأميركية وتنامي ظاهرة العنف الديني

TT

تنامي قوة الدين في كثير من البلاد الإسلامية، استحوذ على اهتمام الدوائر السياسية الأميركية، والتساؤل الكبير التي تواجهه واشنطن: هل الحركات الدينية الأصولية التي وجدت لها أرض خصبة هي امتداد للأفكار والتيارات الأصولية التي ظهرت في الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، أم هي تطور لها أو نبت خاص لا يمت لها بصلة؟

تنامي ظاهرة الأصولية الدينية في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، والتي قادت إلى تفجيرات 11 سبتمبر وبالي والرياض، وتنامي حركات العنف في الجزائر والمغرب، جعلا السياسة الأميركية الخارجية أمام تحديات جديدة، ما دفعها إلى محاولة بلورة سياسة خارجية تهدف إلى إيجاد وسائل لاحتواء تنامي العنف الديني وتصاعد الكراهية ضد الولايات المتحدة.

من الواضح أن هناك توجهات مختلفة في الإدارة الأميركية في تعاملها مع التيارات الأصولية، وربما وجهة النظر التي تنطلق من معهد واشنطن لسياسات الشرق الأوسط ترى في الأصولية الدينية تهديداً حقيقياً للمصالح الاستراتيجية الأميركية، وأن هذا التيار الذي بدأ بتبلوره في نهاية السبعينات آخذ في التصاعد، وأنه إذا ما استكمل بناءه واستطاع أن يسيطر على مراكز الحكم فإنه بالتأكيد يشكل مصدر تهديد للمصالح الأميركية. ويذهب هذا الاتجاه لتدعيم وجهة نظره بأن الأصولية الدينية استطاعت أن تصل إلى الحكم في إيران، وهي بالتالي استطاعت أن تؤثر على الشارع الإسلامي الشيعي، وبدأت بوادر قوية تؤكد تنامي قوة الأصولية السنية التي بدأت تهدد الرياض التي تشكل المركز السني للعالم الإسلامي.

وأما التيار الثاني الذي يقوده مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية ومركز راند كوربوريشن، الذي يقوده غراهام قولير، فيرى في الإسلام السياسي ظاهرة يجب التعامل معها وهي تشكل واقعا جديدا في كثير من البلدان الإسلامية وعلى الإدارة التعاطي معها ومحاولة احتوائها.

ربما من المفيد الإشارة إلى وجود مستويين لنقاش موضوع الأصولية الإسلامية، الأول استراتيجي وهو يتعلق بمدى ما يتوفر للظاهرة من أرضية ايديولوجية يمكن أن تطرح الصراع بين عالمين وحضارتين. وهذا المحور الاستراتيجي على الرغم من أهميته لا يحظى بالاهتمام الكبير في دوائر البحث المختلفة. فيرى البعض أن الظاهرة الأصولية الإسلامية هي رد لاستفزازات «الغرب المسيحي» وأن طابع الصراع هو ايديولوجي وحضاري.

أما البعض الآخر فيرى الأصولية الإسلامية بجانبها السياسي وتأثير ذلك على مختلف السياسات لهذه البلدان، وخصوصاً إذا ما تقلدت مراكز الحكم في منطقة الجزيرة والخليج العربي واستطاعت امتلاك قوة نووية تهدد مصالح العالم.

الإسلام كدين وثقافة لم يتم اكتشافه حديثا، فهو موجود لمئات ملايين السنين، أما ما تم اكتشافه فهو القوة السياسية للإسلام. وما يدعم هذه الحقيقة هو وصول الأصولية الدينية إلى مركز الحكم في دولة نفطية كإيران، وتنامي حركات أصولية شعبية قوية التنظيم، كما هو في الجزائر وتونس، وأن زيادة قوتها من المؤكد ان تهدد مصر وغيرها من دول مجاورة. إضافة إلى تنامي الظاهرة الأصولية في دول الجزيرة والخليج العربي والتي تملك ثروات مالية هائلة والتي قادت هجمات 11 سبتمبر.

استطاعت إسرائيل أن تستفيد من تنامي الظاهرة الأصولية وأن تثبت للغرب أن إسرائيل حليف استراتيجي لم ينته دورها بانتهاء الحرب الباردة. وبالتالي يجب توفير الدعم للدولة الإسرائيلية باعتبارها نقطة انطلاق لمحاربة الإرهاب الجديد.

ما زالت الإدارة الأميركية حائرة حيال تنامي الظاهرة الأصولية، فهي من جانب ترى الأصولية الدينية في فترات تاريخية استطاعت أن تحقق انتصارات على الحركات الآيدولوجية اليسارية، كما حدث بمصر والأردن وأفغانستان، وان هذه الحركات من الممكن السيطرة عليها واحتواؤها، إلا أن أحداث 11 سبتمبر غيرت الصورة مما أدى إلى محاولات عديدة لبلورة توجهات جديدة في كيفية التعامل مع الأصولية الإسلامية باعتبارها الخطر الجديد الذي يهدد العالم.

كما انه اصبح من المؤكد ان تنافس الظاهرة الاصولية الإسلامية أصبح الشاغل الكبير للساسة في العالم مما دفع البعض الى التفكير في البحث عن البدائل الجديدة وخصوصا ان الاصوليات الإسلامية أصبحت تشكل خطرا على بلدان المنشأ، مما يدعو إلى إعادة التفكير في كيفية التعامل مع هذه القوة الجديدة التي تستدعي دراسة ابعاد وأسباب انتشار هذه التيارات في الشارع الإسلامي.

من المؤكد ان العالم الغربي لا يحبذ ان يحول الصراع إلى صراع حضاري مع العالم الإسلامي، حيث في ذلك تهديد كبير للمصالح الإستراتيجية للغرب، وبالتالي مع الاصوليات باعتبارها ليست تهديدا للغرب وحده، وإنما تهديد لمراكز الحكم في العالم الإسلامي ايضا، ومن ثم التعاون في فهم خطورة هذه الظاهرة أصبح مطلبا عالميا وليس غربيا فقط.

الولايات المتحدة والغرب مطالبان بوضع سياسات جديدة في كيفية التعامل مع الموضوع الديني، فالدين يشكل قوة كبيرة لكثير من الشعوب سواء في العالم الإسلامي أو الغربي، وبالتالي السؤال المطروح هو كيف يتم استثمار هذه القوة من قبل كل الأطراف المتصارعة. فمراكز الحكم تستخدم الدين لتدعيم قوتها السياسية، والمعارضة تستقطب العامة ضد مراكز الحكم تحت شعار الدين. ومن الواضح ان هناك قضايا عديدة تؤهل الدين للقيام بدوره الريادي في العالم الإسلامي، فهذا العالم خضع لأنظمة استبدادية سواء علمانية أو تقليدية، واستطاعت هذه الأنظمة ان تورث الكثير من الأزمات في مجتمعاتها مما زاد مخزون قوة المعارضة الدينية، وجعلها أكثر قدرة على استقطاب الرأي العام، ما يدعو واشنطن الى العمل على تغيير مرتكزات سياساتها الخارجية وأن تجعل موضوع الإصلاحات السياسية أمراً في غاية الأهمية لإعادة التوازن في معظم البلاد الإسلامية، وحث قيادتها على تبني مفاهيم جديدة في إدارتها للحكم، وربما تأتي قضايا تفشي الفساد والاستفراد بالسلطة وتفاقم البطالة وتطوير برامج التعليم على قمة أولويات الإصلاحات السياسية..

*أستاذ علم الاجتماع وعميد كلية الدراسات الاجتماعية ـ جامعة الكويت

[email protected]