الدخل والناتج وكل شيء آخر

TT

كان الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الشهر الماضي الضيف الرئيسي في مؤتمر «الفكر العربي» في بيروت. وعندما حان موعد خطابه القى جانباً الخطاب المعد واستبدل كلمة مرتجلة به اثارت تعاطف الحاضرين واعجابهم. ومنذ ايام اصدرت «دار النهار» الخطاب في كتيّب صغير، يمكّن الذين سمعوه انذاك من ان يقرأوه في هدوء. وقد ارتكز في خطابه بصورة رئيسية على حال الأمة وفقاً للتقرير السنوي الذي يصدره «برنامج الأمم المتحدة الانمائي» الذي انتقى منه النقاط الآتية: الناتج الداخلي الخام للعالم العربي برمته يبلغ 550 مليار دولار يقل عن دخل اسبانيا وحدها (600 مليار). معدل دخل الفرد العربي هو نصف المعدل العالمي. صادرات الدول العربية كلها (ما عدا المحروقات) وعدد سكانها 284 مليوناً اقل من صادرات بلد مثل فنلندا وعدد سكانه 5 ملايين نسمة. يترجم العالم العربي كل سنة اقل بخمس مرات مما يترجمه بلد مثل اليونان وعدد سكانه 11 مليوناً. عدد الكتب التي ترجمها العرب منذ الخليفة المأمون هو العدد الذي يترجم في اسبانيا كل عام. يقدر عدد براءات الاختراع التي وضعها العرب بين عامي 1980 و2000 بـ370 بينما بلغ في اسرائيل خلال الفترة نفسها 7652. تصدر كل يوم 53 صحيفة لكل الف نسمة في العالم العربي تقابلها 285 صحيفة في البلدان الصناعية.

يقول الرئيس بوتفليقة ان لهذه الحال ثلاثة اسباب اساسية: حرية التعبير وحرية الحصول على المعارف ووضع المرأة. ويرى ان الوضع قد ازداد سوءاً في السنوات الاخيرة «عندما اصبح باقي العالم لا يرى فينا سوى تهديد لأمنه وثقافة لا تقبل بالقيم الديمقراطية». وقال: «الآن وقد مرّ زمن كاف، يسمح لنا بالتنقيب الهادئ، عن اسباب فشل النهضة العربية، ومعرفة لماذا قضينا «قرنا من اجل لا شيء (1)» عرفنا من خلاله «النكبات والنكسات» لا يمكننا الا الوقوف عند خلاصة واضحة، وهي ان هذه الاسباب ليست سياسية ولا عسكرية ولا اقتصادية، بل هي في الاساس متصلة بتصوراتنا الذهنية، وبنظرتنا للعالم، ونظرتنا للحياة. فهي، كما قال المفكر الجزائري مالك بن نبي، «لا تعود للوسائل بل للافكار التي نحملها».

يرد بوتفليقة كل شيء، بما فيه الاخطاء السياسية والاقتصادية وفي العلاقات الدولية الى «تصورنا للحياة غير القادر بالاجتهاد المستمر على الاستجابة لتحديات الواقع وتجاوز تلك العقبات». وقال ان الاصلاحيين في القرن الماضي اضطروا الى العيش في المنفى «لأننا رفضنا روح النقد فيهم وجرأتهم التي كانت ستدفع بنا الى استطلاع ما هو وراء افقنا الضيق المعروف، الذي اكتفينا به افقاً الى الأبد».

يرى بوتفليقة ان عصور النهضة في العالم بدأت كلها في مرحلة واحدة تقريباً ما بين عامي 1850 و1880. ويقول انها انطلقت جميعاً في الهند والصين واوروبا واميركا، ووجهت بالصدّ فقط في العالم العربي حيث اصطدمت بالجدار وأخفقت. وقال ان الحلم العربي الذي كان بين اولئك الذين عملوا من اجله، لم يعش طويلاً. ومن يقارن بالنص المرتجل الذي تلاه الرئيس الجزائري وبين النص المعدّ الذي طواه، يشعر ان الرجل احس برغبة حقيقية جامحة وصادقة في ان يتنفس قليلاً على شرفة الحقيقة وخارج ضوابط وجدران المسؤوليات الرسمية. ولكن الى اي مدى يمكن لخطاب منفرد ان يحدث بالفعل تياراً تغييرياً في حال الأمة؟ والى اي مدى يمكن طرح مشروع النهضة كقضية في العالم العربي؟ وأي ناحية من نواحي النهضة او اشكالها، تشكل موضوعاً في انتخابات الرئاسة الجزائرية، حيث المنافس الاقسى لسي عبد العزيز، مدير مكتبه السابق، ومدير حملته الانتخابية، واقرب الناس اليه. طبعاً، ذات يوم.

(1) عنوان كتاب بالفرنسية لغسان تويني وجان لاكوتور