أي مرجع ديني في العراق؟

TT

لو كان اية الله علي السيستاني يريد ان يشتغل في السياسة لفعلها حتى قبل بدء العمليات العسكرية ضد النظام في بغداد، او فعلها في الاشهر التاريخية التي اعقبت ذلك، لكنه امتنع. وللسيستاني، الذي يعتبر مرجع شيعة العراق الاول، موقف ينسب اليه انه لا يؤمن بولاية الفقيه، المبدأ الذي يحكم الجارة ايران، وليس مع تدخل علماء الدين في ادارة شؤون الدولة.

موقفه في الأشهر العصيبة وإحجامه عن الظهور برهنا على سلامة طرحه، لكن هناك من يريد ان يبني للعراق مرجعا دينيا سياسيا ويصر عليه. وموقف آية الله السيستاني المعلن الرافض للتدخل السياسي سيبرهن الوقت على صوابه، خاصة ان العراق بلد يموج ليس بتعددية دينية فحسب بل ايضا بتعددية القيادات الدينية في كل الطوائف تتنافس بينها لتكون مرشدة سياسية.

هناك من يريد ان يدفع برجال الدين نحو الزعامة السياسية، رغم ان البلاد خلال الاشهر التي اعقبت سقوط النظام عادت لهم، أي المراجع والمتعبدين، حرية لم يكن مسموحا لهم بها منذ اكثر من ثلاثين عاما، ولم يعد احد يشتكي من نقص الحريات الدينية اليوم.

وهنا يمكن ان يقال ان رفض التدخل الديني يعني بلغة خبيثة حرمان الاغلبية الشيعية من حقها في الوجود السياسي، وهذا ليس صحيحا لو تأسس العمل السياسي بصيغة ديمقراطية. فالانتخابات ستمنح عمليا الاغلبية الصوت الاعلى، من دون ان تبخس حق الاقليات من تمثيلها وفق أحجامها، وهذا الصوت الاعلى للأغلبية يضمن للشيعة المدنيين ان يكونوا اكثر تأثيرا لكنه لا يمنح رجال الدين سلطة سياسية. وهنا تكمن مشكلة البعض!

والتجربة الايرانية تصلح درسا، فهي بدأت دينية صرفة وخلال تجارب السنين تراجعت عن الكثير من افكارها في كيفية ادارة الدولة، وحتى الآن تحاول حل اشكالاتها بما فيها فلسفة الحكم نفسها. وما اشكالات الانتخابات الأخيرة الا دليل على ذلك. فالنظام بديمقراطية مبتسرة يرفض اساسا السماح لخصوم النظام من ترشيح انفسهم، ثم صار يمنع أيضا خصومه من داخل النظام، أي بعض الاصلاحيين الاسلاميين، كذلك من الترشح.

التعددية الدينية والاثنية في العراق اكثر تشققا من ايران وبالتالي لا يوجد احد عاقل يريد ان تتحول المسابقات الانتخابية غدا بين رجال دين من طوائف مختلفة او حتى داخل الطائفة الواحدة، فهذا سيقضي حكما، وليس ظنا، على واقع الحال وسيمزق العراق الى دويلات صغيرة متناحرة. الجانب الآخر الذي يفترض ألا يغيب عن الحساب السياسي هو انه مهما بدا الاميركيون في حالة عجز سياسي عن ادارة العراق، كما هو واضح اليوم، فانهم لن يقبلوا في نهاية المطاف ان يسلموا الحكم تحت أي صيغة الى رجال الدين. فقد انفقوا على تغيير نظام عدو اكثر من مائتي مليار دولار وعددا ليس بالقليل من ارواح ابنائهم. ومن المؤكد انهم يريدون بناء نظام سياسي يقوم على صيغة ديمقراطية ما لا تنتج حكاما على عداء معهم. فمنطقة الخليج، بما فيها العراق، من الاهمية لهم بدرجة لا يمكن ان تترك لنزاعات دينية ترفع اسعار النفط غدا الى مائة دولار للبرميل او تنقل النفوذ الى طرف آخر. هذا هو المحك الأخير في الحكم على سير الامور.