هل من مجيب؟

TT

انتهى زمن «من علمني حرفاً صرت له عبداً»، فلا التعلم هو فك للحرف كما أيام الكتاتيب، ولا العبودية تليق بالمتعلمين الناضجين، ولو من باب الاعتراف بالجميل. أما وان وزارات التربية والتعليم العربية لم تسقط بالكامل مفاعيل المثل السائر فيجوز لنا أن نسألها: ما هي فلسفتكم في تعليم أبنائنا؟ وهل تجرؤون على ان تصنعوا منهم في مدارسكم مواطنين شغوفين بالسؤال والمحاسبة والبحث عن الحقيقة أينما كانت، ولو اقتضى الأمر الانقلاب على سياستكم؟ يجيب عالم المستقبليات الأميركي ألفن توفلر عن سؤال كهذا بالقول «ان النهج التعليمي الذي نعتمده يخرج من رحم الصورة التي نريدها للمستقبل، فإن كان تصورنا للمستقبل في عمومه خاطئاً، فإن النظام التعليمي يخدع الشبيبة الناشئة؟». وكي لا نبقى مخدوعين إلى أجل غير مسمى يفترض ان يتم التوافق أولاً على شكل الغد المتوخى، إن كنا نوده شبيهاً بالراهن الغائر في الظلام أم متمرداً علية ومنقلباً على خنوعه؟ وبما ان الجدل ما يزال دائراً حول ما نريد لأنفسنا اليوم وغداً، وما نقبل وما نرفض، فإن التعليم سيبقى مرتجفاً خائفاً من إعطاء فلذات الأكباد تصوراً واضحاً عن أنفسهم والآخرين، وسيظل يراوح مكانه مكتفياً بتهجّي الحرف وحل بعض المسائل الحسابية، لتخريج العبد الفقير، الذي لا يجيد من الدنيا سوى تسول المساعدات، وطلب النجدة من الغريب قبل القريب، كما حدث لأهل العراق ونرى بوادره عند غيرهم.

أنظر كيف يعرّف بعض التربويين التعليم الحديث الذي تدور بفضله العجلة الاقتصادية المعولمة: «ان تتعلم كيف تتكل على نفسك لتتعلم، وأن تتقن حل المسائل والمعضلات التي تواجهك، كما تعرف كيف تبحث عن المعلومة وتطورها». وتشكو بعض دول العالم الأول من قصور برامجها عن تحضير أبنائها لهذا الامتحان الحياتي الذي بات ينتظرهم بمجرد خروجهم من باب مؤسستهم التعليمية، لأنها كانت قد بنت رؤاها المستقبلية على أسس اجتماعية صناعية أكثر مما هي اقتصادية تكنولوجية، وأعطت الأولوية للثقافة العامة وتغذية حس المواطنية، بإدراك الحقوق والواجبات، وتنمية قيم العدالة والتسامح وحقوق الإنسان على حساب الحنكة والديناميكية والمهارات الربحية. أي ان أميركا حين تطالب المناهج العربية بالانفتاح على الآخر (ولو انها دعوة حق يراد بها باطل) فإنما تريد لهم شيئاً من المنحى التعليمي الذي بدأ الواقع يتجاوزه والعرب لم يبلغوا قليله أو كثيره بعد. وبكلام آخر فنحن لا مع القديم بخير ولا مع الجديد أيضا. والأنكى ان أولادنا يذهبون الى مدارسهم كل يوم بشنط تساويهم وزنا أو تزيد ويعانون الكد والأسى لأجل هدف غائم، قد لا يعرفه السيد الوزير أو مستشاروه الأفاضل. والاعتراف بالجهل أو العجز فضيلة، لا تجلب عاراً ولا تحدث دماراً، بل على العكس، فها هو وزير التربية الفرنسي لوك فيري يعترف في رسالة طويلة ـ صدرت عن دار اوديل جاكوب ـ وجهها لأمته العام الماضي بعنوان «لكل أولئك الذين يحبون المدرسة» يصارحهم فيها بأن حال أولادهم من سيئ إلى أسوأ رغم الميزانيات الضخمة التي خصصت لأجلهم، ولا بد من دق ناقوس الخطر واستنهاض الهمم وفتح أبواب حوار يشارك فيه الأساتذة والأهالي ونواب الأمة، يشمل المناطق كلها، ويجعل الجميع يسبحون معاً في مغطس المسؤولية. ولما كان لوك فيري فيلسوفاً ومفكراً شهيراً، قبل ان يصبح وزيراً مرموقاً فقد أسعفته الفطنة، ودفعته الثقة بالنفس لأن يقول «لا أدري» من دون عقد نقص، تكلف ملايين الأطفال مستقبلهم. فمعضلة بحجم بلد لا تُنظِّر لها مجموعة صغيرة تنصّب نفسها أو تنصَّب من أحدهم في موقع المنقذ الفذّ. ولوك فيري هذا ابن ميكانيكي يعتبر مهمته في الوزارة امتداداً لمهمة والده في ورشة السيارات «لأن مهنته كانت ذات علاقة وطيدة بالبحث عن الحقيقة، فتحسين عمل محرك سيارة أو حل مشكلة تقنية، وإيجاد نظام العمل المناسب لآلة، يشبه إلى حد بعيد إيجاد نظام للتفكير يستطيع ان يجعل الإنسان اكثر ذكاء». ومع ذلك لم يدّع الرجل ما ليس بمستطاعه، وهو يعي ان المدرسة عالمياً هي في امتحان عسير، وان النجاح معناه ان يكون النتاج الطلابي متمتعاً بمواصفات جديدة لم تكن بالحسبان قبل سنوات عشر فقط، وأن الأساتذة ومعهم وزارة التربية عليهم ان يعاودوا درس السوق وحاجاته، ويراجعوا فلسفتهم واستراتيجيتهم بإدمان شرس كي يتمكنوا من جعل مواطنيهم داخل التاريخ لا خارجه. فالمدرسة صار دورها أن تفبرك الإنسان الذي يرد على حاجة السوق، شئنا ذلك أم أبينا. فما هي متطلبات سوق العمل العربية، من فضلكم؟ وما هي مواصفاتها وطبيعة منتوجاتها؟ وبما أن المجتمع العربي لم يعد زراعياً ولا صار صناعياً ولا يخطط له كي يكون تكنولوجياً، فمن باب الخداع والتغرير ان يدعي أي كان بأن طلابنا صغاراً وكباراً يؤهلون لأن يكون لهم عمل ما في ربوع الوطن غير الاستجداء في سبيل الاستهلاك، أو مغادرة البلاد مع أول فيزة خلاص تمنحها سفارة أجنبية تسعى للحصول على رؤوس بشرية لسد حاجتها الديموغرافية.

لعن الله السياسة وفعل «ساس»، كما قال محمد عبده، فمأساة التعليم مرتبطة أولاً واخيراً بالحبل السري للقرار العلوي، ولا مدرسة يمكنها ان تفلح من دون رؤية شمولية واضحة من رأس الهرم. ورداً على الذين طالبوني إثر مقال سابق حول «المباهج في المناهج»، بطرح الحلول وإيجاد الدواء الشافي بدل البقاء في حيّز توصيف الحال، أجيب بأنني لست أَنبه ولا افطن من لوك فيري، وأعترف بأنني مجرد «برغي» صغير في آلة جهنمية طاحنة يحاول القفز من مكانه، والتمرد على السير في الاتجاه الخطأ وعكس التيار. وإن لم تتعاضد «البراغي» الصغيرة كلها، في اللعبة الارتجاجية المأمولة، لتعطيل هذا السيرك التربوي الذي يواصل عروضه البهلوانية الهزلية، فإن الأمل ضعيف في رؤية أبناء أذكياء، متنورين وناجحين. وإن كان ثمة من يزال يحلم بأن الخلاص التعليمي هو في تعديل جملة هنا أو تبديل صورة في كتاب أو استبدال الهيئة الاستشارية للمناهج بأخرى غيرها، يكون سعيه مجرد لهو في الوقت الضائع. وللتذكير فقط فاللهاث المحموم اليوم هو وراء تخفيض عدد الأميين، لا رفع أمية المتعلمين. والسؤالان الأساسيان اللذان يحتاجان لإجابات ملحاحة هما كالتالي: هل نريد أولاداً مطيعين مذعنين أم تحريضيين، مفكرين ومختلفين؟ وهل نعرف ماهية العمل الذي ينتظر أولادنا، ان كان ثمة عمل، وما المهارات التي عليهم إجادتها كي لا يموتوا جوعاً وذلاً؟ فهل على هذين السؤالين المحددين من مجيب؟

[email protected]