العرب ومرحلة الانتقال من حالة الـ«نسعق» إلى حالة الـ«نسعج»

TT

ثمة وسواس خناس يهيمن على شخصيتنا العربية يتمثل باحساسنا الدائم بأننا على وشك ان نفقد شيئا ما، يستدعي البكاء. ربما هو الكلأ، او الماء، او الابل، او المال، او البنون. وجاء «فقد» الأندلس، وبعدها فلسطين، ليزيد الطين بلة، ويعمق الرغبة العربية الخفية بالبكاء، وينقشها في تجاويف العقل العربي الذي رفع «الخنساء» الى مصاف الشعراء الكبار، لأنها اشتهرت بنظم المراثي، وهي التي لا موهبة شعرية حقيقية لديها .

بسبب رغبة البكاء الدفينة في الصدر العربي، لا يمر يوم في سماء العروبة، الا وتخرج فيه جنازة اعلامية تعبر طرقات العرب، ملفعة بالسواد، محفوفة بالعويل، تطوف مدائننا الحزينة، تستجدي الولولة واللطم، فيستنهض الاعلام ذاته لـ«يلعب» دوره الجنائزي العتيد، ويتشبه بالنسوة النوّاحات اللواتي يستأجرهن اهل الميت في بعض القرى العربية من اجل البكاء على الفقيد.

اعلام عربي هذا؟ ام سرادق عزاء يقام بمناسبة الجنازات التي كانت آخرها جنازة «التغلغل الاسرائيلي في العراق»، فالمرء لا يفتح جهاز تلفزيون عربي او يطالع في صحيفة عربية، الا ويجد الاعلاميين والمفكرين والمثقفين العرب يتزاحمون ويتدافعون بالمناكب ليذرفوا الدمع السخين على العراق بسبب «التغلغل» الاسرائيلي فيه؟

عرب عاربة ومستعربة، يرعدون في الفضاء المتلفز، ويزبدون في الصحافات. يسطرون المقالات، ويدحرجون الكلم في آذان السامعين. يتباكون على التعاون العراقي ـ الاسرائيلي، ويتجاهلون ان العراق الجديد الذي يتخلق اليوم هو «نظام سياسي عربي جديد» يتم تشييده على انقاض النظام السياسي القديم، حيث ينهمك العراقيون والأميركيون بارساء اركان «أول» دولة مدنية في المنطقة يقوم فيها نظام سياسي حداثي مهمة السلطات فيه البناء لا العداء. التعمير لا التدمير. الوصال لا الانفصال. السلام لا الخصام مع اسرائيل او غيرها.

اسرائيل دولة جارة في المنطقة. ولا يغير من هذه الحقيقة وصفها بـ«الكيان الصهيوني» او «دولة العدو » او غيرها من اوصاف اعتدنا سماعها من اعلامنا العربي. بيد ان الذي من اجله اغزل هذا الكلمات هو ان الصراع العربي ـ الاسرائيلي كان في الاساس «حالة عداء» بين النظام السياسي العربي القديم من جهة، وبين اسرائيل من جهة اخرى.

ان النظام السياسي العربي القديم، ونختصره بـ«نسعق» وحده المسؤول عن اشعال فتيل العداء. وقد حدث ذلك عندما تدخلت الدول العربية وفرضت رأيها على الفلسطينيين وحرضتهم على رفض قرار الأمم المتحدة القاضي بتقسيم الارض بينهم وبين اليهود. فدفع الشعب الفلسطيني وحده ثمن تدخل الـ«نسعق» في قضيته. وبدأت، مذاك، رحلة عذاب لم تنته بعد.

لم يكن العداء بين شعب اسرائيل وشعوب المنطقة، عربا كانوا او أكرادا او فرسا او غيرهم، كما انه ليس عداء بين اليهود وبين الفلسطينيين انفسهم. فعقلاء فلسطين، وقتذاك، قبلوا قرار التقسيم ليجنبوا الشعب الفلسطيني ويلات التشرد. غير ان المجتمع المدني الفلسطيني الضعيف لم يقوَ على الصمود بوجه شراسة النظام السياسي العربي.

فالملكية الفكرية لمسرحية الصراع العربي ـ الاسرائيلي حق محفوظ لـ«نسعق» فبعد ان هيأت جامعة الدول العربية الخشبة لعرض المسرحية في حرب 1948 لعب جمال عبد الناصر حسين دور« البطولة ـ الهزيمة» لأكثر فصولها اثارة عام 1967 واستمرت فصول المسرحية حتى اسدل صدام حسين ستارة نهايتها عام 2003.

ان «نسعق» نظام سياسي مسخ، هجين، سكناه جامعة الدول العربية، وقد تخلق في ظروف غير الظروف الحالية، وتجسد في جميع الدول العربية، فكانت كل دولة من هذه الدول «نصف دينية ونصف علمانية من جهة، ونصف قومية ونصف قطرية من جهة اخرى»، وقد استمد عدد من الانقلابيين العرب شرعيتهم السياسية من حالة العداء لاسرائيل، ما استوجب الحفاظ على النار مستعرة ، بالقاء مزيد من الحطب في اتونها.

نعم. كانت عداوة افتعلها «نسعق» مع اسرائيل، واستمر العداء بينهما بسبب النظام المهيمن على العالم، عصرئذ، حين كانت البشرية محكومة بقطبية ثنائية استدعت حربها الباردة صراعات اقليمية تضبط ايقاع الصراع العالمي الكبير والمخيف، الامر الذي مد الصراع العربي ـ الاسرائيلي باسباب الاستمرار.

بيد ان الاتحاد السوفييتي هوى، وتناثرت اجزاؤه، وانتهى نظام القطبين، واصبحنا نعيش في ظلال نظام عالمي جديد يلفظ «نسعق» الذي تفيد شهادة وفاته بأنه ولد خديجا، في عام النكبة، ومات سفيها في عام العنكبوت. السنة التي قبض فيها على ممثل هذا النظام مطمورا في حفرة العنكبوت.

لذلك وقبل الهرولة الى حائط المبكى الاعلامي العربي لممارسة البكاء على التغلغل الاسرائيلي في العراق، ينبغي البحث عن الـ«نسعق» المسؤول عن حالة العداء تلك. هل لا يزال قائما؟ ام انه نظام انتهى عمره الافتراضي، واصبح غير صالح للاستعمال الآدمي، فأمسى اثرا بعد عين؟

الاجابة السليمة تفيد بأن «نسعق» الذي افتعل العداء مع اسرائيل واستفاد منه، رحل غير مأسوف عليه. فهل يعقل ان تتمسك شعوب المنطقة بحالة العداء، وهي الطرف البريء والخاسر الوحيد من تلك الحالة العدائية القديمة؟

ان العلاقات الخارجية بين الدول، سواء كانت ودا او عداء، تعاونا او جفاء، صدقا ام رياء، ليست آثارا تاريخية، اهرامات او معابد، تبقى في البلاد ويرثها الخلف عن السلف. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وسقوط الشيوعية في أوروبا تحولت العلاقات العدائية بين شطري أوروبا، الى علاقات طيبة، وتعاونات وثيقة ، بلغت درجة الائتلاف في الاتحاد الأوروبي. والامثلة لا شك كثيرة.

تبقى قضية الشعب الفلسطيني حاضرة في الوجدان، لا تبرح الضمير. ولن يكف الشرفاء، عربا وهنودا وعجما وغيرهم، عن المطالبة بحل عادل للقضية الفلسطينية. ولعل زوال حالة العداء لاسرائيل، وشروع النظام السياسي العربي الجديد «نسعج» بممارسة علاقات دولية رشيدة، يسهم بايجاد حل للقضية الفلسطينية ، مثلما اسهم الرشاد بعودة شبه جزيرة سيناء الى مصر. وسيناء اكبر، وأغنى، وأهم في الحسابات الاسرائيلية من القدس وغزة وغيرها من مدن فلسطينية.

اعود الى سرادق العزاء، فأشير الى خطورة استمرار هذه الكربلائية الاعلامية التي تبني «جدارا عازلا» بين الحاكم والمحكوم في مجتمعات عربية تشهد، حاليا، تحولات عميقة تنقلها من حالة الـ«نسعق» الى حالة الـ«نسعج» على أيدي النخب الحاكمة والحكيمة، التي تقود الاصلاحات في بلادها ادراكا منها لضرورة قيام نظام سياسي عربي جديد، يتشكل، اليوم، بيدها هي، لا بيد «عمرو»!

* كاتب صحافي كويتي

[email protected]