لا تحلموا كثيرا.. فمحافظو أميركا لن يغيروا لكم جلدهم ..!

TT

اسأل أي شخص عن هوية «المحافظين الجدد» في واشنطن، وستسمع في الغالب اسمي ديفيد فروم وريتشارد بيرل. فديفيد فروم هو صاحب عبارة «محور الشر» التي وصف بها الرئيس الأميركي جورج بوش الدول التي تدعم الارهاب الدولي. اما ريتشارد بيرل، الذي يلقبه بعض منتقديه بـ«أمير الظلام»، فهو معروف بأنه واحد من ابرز خبراء التخطيط الاستراتيجي في اوساط معسكر المحافظين الجدد.

ظل فروم حتى العام الماضي واحدا من كتاب خطابات الرئيس بوش، فيما عمل بيرل، الذي كان مساعدا لوزير الخارجية خلال رئاسة رونالد ريغان عضوا بلجنة سياسة الدفاع، وهي هيئة استشارية رئاسية. كلاهما مقرب من وزير الدفاع دونالد رامسفيلد ونائبه بول وولفويتز الذي يعتبر بمثابة العقل المفكر لجماعة المحافظين الجدد.

وفي حال إعادة انتخاب بوش رئيسا للولايات المتحدة، من المتوقع ان يلعب كل من فروم وبيرل دورا اكبر من صياغة سياسة الولايات المتحدة، خاصة فيما يتعلق بالشرق الأوسط، اذ ان الكتاب الذي نشراه في الآونة الاخيرة بعنوان «نهاية الشر.. كيفية الانتصار في الحرب ضد الارهاب» يعتبر مناشدة بتغيير الانظمة الحاكمة في منطقة الشرق الأوسط.

ربما ينتمي فروم وبيرل الى أي جهة، لكنهما ليسا من المحافظين الجدد ولا القدامى. فالخطاب المحافظ التقليدي يركز عادة على اهمية المحافظة على الوضع الراهن مع الاستعداد للتفكير في اجراء اصلاحات حذرة لجعل هذا الوضع الراهن اكثر استقرارا. المحافظون ربما يدهنون البيت ويغيرون ديكوره وأثاثه وربما يضيفون امتدادا للمنزل او حتى طابقا بكامله، لكن بالتأكيد لن يحضروا جرافة كي يسووا البيت بكامله بالارض او حتى هدم أجزاء منه بغرض تشييده من جديد.

يعتبر كتاب بيرل وفروم عملا بارزا، ان لم يكن مانيفيستو يعكس وجهة نظر راديكالية، بل حتى ثورية، ازاء عالمنا المعاصر والدور الذي يجب ان تلعبه الولايات المتحدة في اعادة صياغته.

يقترح الكاتبان اجراء تغييرات يمكن ان تحدث تبدلا جذريا في حالة تطبيقها على الطريقة التي تحكم بها الولايات المتحدة. فبالبيت الأبيض ووزارة الخارجية ووكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) ووزارة الدفاع (البنتاغون) ومكتب المباحث الفيدرالي (إف بي آي) وكل المؤسسات الاخرى التابعة للحكومة الأميركية ستتغير بصورة لم يسبق لها مثيل. كما سيكون للتغيير المشار اليه دور مباشر في تشكيل السياسة الخارجية للولايات المتحدة.

فإذا تناولنا ايران كمثال لشرح أبعاد النهج الأميركي المذكور، يتلخص منهج المحافظين في واشنطن، الذي يجد تأييدا من الاتحاد الأوروبي واقسام داخل الادارة الاميركية، في الاعتراف بشرعية النظام الحالي في طهران، على ان يطلب من الملالي تغيير جوانب سلوكهم الخارجي.

الا ان منهج فروم وريتشارد يختلف تماما. فهما لا يريدان ان يغير النظام الايراني سلوكه في الخارج من خلال تنفيذ ما يمكن ان يرضي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، كما لا يرغبان في ان يكون الملالي اكثر مرونة تجاه الشعب الايراني. ما يريده كل من بيرل وفروم هو الأطاحة تماما بالنظام الايراني ووضع نظام آخر مكانه لا يكون في حاجة الى ان يطلب منه تغيير سلوكه لأنه لن يقدم على التصرف على نحو سيئ منذ البداية.

كانت حملة فروم وبيرل المؤيدة لحرب تحرير العراق قائمة على اساس تحليل مماثل.

ولا تزال فرنسا تشعر بمرارة ازاء ادارة بوش لأنها ترى انه كان بوسعهم إقناع صدام حسين بتغيير مسلكه. الا ان فروم وبيرل لا يرضيان حتى اذا بات صدام ينفذ كل ما تطلبه منه الولايات المتحدة، اذ ان ما يرغبان فيه هو رؤية صدام في الحبس. بل انهما لا يتفقان حتى مع مبدأ الرئيس ليندون جونسون الذي يتلخص في ترك الطغاة وشأنهم فيما يتعلق بتعاملهم مع شعوبهم طالما انصاعوا لما تطلبه الولايات المتحدة.

وبنفس القدر، لا يسعى كل من فروم وبيرل الى تغيير مسلك وسياسات انظمة اخرى مثل سورية وكوريا الشمالية، فهما يريدان اطاحة هذه الانظمة لتحل محلها نظم حكم ديمقراطية ونظام يمارس اقتصاد السوق.

نهج السياسة الخارجية هذا يتعارض مع مبادئ التقارب الثقافي التي سادت خلال العقود الاخيرة من القرن الماضي وأطالت من عمر «امبراطورية الشر» السوفياتية.

حدد فروم وبيرل ما اطلقا عليه «الاسلام المتطرف» او «الارهاب الاسلامي» كأكبر خطر يتهدد الولايات المتحدة والحضارة الغربية في الوقت الراهن. ويتضمن الكتاب، الذي اعد على عجل فيما يبدو، هجوما علنيا يستهدف عدة جهات على نحو ينم عن سهو فهم بالغ او تشويهات واضحة. ويتضح للقارئ ايضا ان فهم المؤلفين للسياسة في العالم الاسلامي غير كاف، فهما يجهلان تماما المساعي والجهود التي بذلها عدد لا يحصى من الكتاب والمدرسين والسياسيين الذين حاربوا الاستبداد وعملوا على ترقية الاصلاحات واعلاء قيم الحرية. وقد اورد فروم وبيرل في الكتاب ثلاثة اعتبروهما «اصلاحيين» و«محدثين» هم الروائي البريطاني الهندي المولد سلمان رشدي والاستاذ الجامعي الاميركي اللبناني الاصل فؤاد عجمي ثم المفكر الأميركي العراقي الاصل كنعان مكية.

كما ان فروم وبيرل لم يعترفا بحقيقة ان أول ضحايا الارهاب هم المسلمون. فهناك صدام حسين والخميني اللذان تسببا في موت مليوني عراقي وايراني نتيجة الحرب والاعدامات الجماعية، بالاضافة الى عشرات الآلاف من الذين لقوا حتفهم في الجزائر ومصر وباكستان واليمن واخيرا في السعودية بأعمال ارهابية، وذلك في مجمله يدل على ان ثمة حرب داخل الاسلام نفسه وليس حربا او «مخطط» اسلامي لفتح العالم.

يقول فروم وبيرل ان الولايات المتحدة و«الدول المتحضرة» الاخرى عليها واجب اخلاقي يتمثل في مساعدة الشعوب المضطهدة لتحرير نفسها، فقد كتبا: «تدخلنا لمساعدة الشعوب عند وقوع كوارث طبيعية مثل الزلازل والفيضانات والمجاعات. إذاً لماذا لا نتدخل لمساعدة الشعوب في حالات الكوارث السياسية التي يسببها الفساد والانظمة القمعية؟».

اكثر الاجزاء اثارة للاهتمام في كتاب فروم وبيرل يتناول السياسة الأميركية على الصعيد الداخلي. ويزعم الكاتبان في هذا السياق ان وزارة الخارجية الاميركية قد وقعت تحت تأثير الاتحاد السوفياتي السابق وانها خلال العقود الاخيرة من حقبة الحرب الباردة فعلت ما بوسعها لمنع انهيار الاتحاد السوفياتي. واوردا ايضا ان الوزارة اقنعت الرئيس بوش بالسفر الى اوكرانيا عام 1989 لحث الأوكرانيين على عدم السعي الى الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي السابق والمساعدة في الابقاء عليه حيا.

كانت لهجة الكاتبين حادة ايضا ازاء وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، فقد زعما ان الوكالة عملت في معظم الاحيان كقناة لخداع الرؤساء الأميركيين المتعاقبين بشأن واقع الاتحاد السوفياتي. كما اشار الكاتبان الى فشل ادارة الرئيس الأميركي الاسبق جيمي كارتر في فهم طبيعة الخمينية، ففي عام 1978 قرر مجلس الامن القومي الأميركي اعتبار الخميني مثل «غاندي الاسلام» و«قديس القرن العشرين».

رغم ذلك، لم يكن الانجذاب الآيديولوجي او السذاجة هي التي كانت تقود صناع القرار في الولايات المتحدة. ففي بعض الحالات اشترت بعض الحكومات الخارجية أميركيين متنفذين بمختلف الطرق. الامثلة الاكثر وضوحا على هذه الظاهرة هي الاستعانة بشخصيات اميركية متنفذة في مجموعات الضغط او رشوة هؤلاء بمنحهم عقود وظائف في مجال الاستشارات فضلا عن مخصصات متنوعة.

ما يمكن قوله هنا هو ان ما اورده فروم وبيرل ليس بجديد. فقد اوضحه هوميروس، الذي كان ينظر الى العالم كونه مسرحا للنزاع الدائم، فيما اضفى توماس هوبز على هذه النظرة بعدا سياسيا في «لوباثان». وحتى في تاريخ الولايات المتحدة نفسها تبنى عدة رؤساء، من ضمنهم جيمس مونرو وثيودور روزفلت ورونالد ريغان، هذه الرؤية بدرجات متفاوتة. ويرى انصار هوبز ان العالم غابة خطرة كل ما يلمس فيها يتحرك فورا وكل ما يتحرك يمكن ان يؤذي، ولذا يجب ان يكون الشخص على استعداد لأن يَْقتُلَ قبل ان يُقْتَل.

ظلت نظرة توماس هوبز تشكل مرتكزا لسياسات القوى الأوروبية حتى نهاية القرن التاسع عشر. ولذا من الغريب ان تتبنى الولايات المتحدة، التي تعتبر «قوة عظمى» حديثة، هذا النهج القديم في عالم جديد.