الكذبة الكبرى

TT

تصريحات ديفيد كاي، رئيس فريق التفتيش الاميركي عن اسلحة الدمار الشامل في العراق، مثيرة للحيرة ويعجز المتتبع لها عن معرفة ما يصبو إليه حقيقة، فهو يريد في وقت واحد الاعتراف بأن لا اسلحة دمار شامل في العراق، إنما الادارة الاميركية كانت على حق لأن الرئيس جورج دبليو بوش لم يخدع الرأي العام الاميركي، بل انه هو الآخر خُدع من قبل اجهزته الامنية.

الكل يذكر انه بعد حرب تحرير الكويت كان كاي من اوائل المفتشين عن اسلحة الدمار الشامل في العراق وكان من أعتى الصقور، ولم يتحمل استبداله لاحقا. وعندما قابلته في مكتبه بلندن في تلك السنوات خرجت زائغة انتظر اللحظة التي ستفجر فيها اسلحة صدام حسين النووية، عندما تصبح جاهزة، العالم. وظل كاي يكذّب كل المفتشين الدوليين الذين ذهبوا بعده الى العراق وبالذات سكوت ريتر الذي قال ان العراق لم يعد يمتلك اسلحة دمار شامل، وظل على موقفه اثناء الاستعدادات للحرب الاخيرة.

وقعت الحرب وأطيح بصدام حسين، وأمام سؤال العالم: وأين هي اسلحة الدمار الشامل، أعادت واشنطن تعيين كاي على رأس فريق التفتيش الدولي. ويومها قال كاي إن عمله سيكشف مواقع الاسلحة الممنوعة، ثم قدم تقريرا غامضا، وهو ان العراق يملك ،ولا يملك، اسلحة دمار شامل، كان ذلك في تشرين الاول (اكتوبر) الماضي، وبعد استقالته يوم الجمعة الماضي، تراجع يوم الاحد عن استنتاجه بأن العراق يملك اسلحة دمار شامل، انما «كانت هناك نوايا لمواصلة هذه الانشطة لاحقا». تصريحاته هذه كانت في واشنطن، اما تصريحاته لصحيفة «الصانداي تلغراف» في لندن فكانت ان العراق ارسل بعض هذه الاسلحة الى سوريا! أما الأغرب في تصريحات كاي فكانت تلك التي اطلقها لصحيفة «نيويورك تايمز»، وحسب نظرية كاي، فان العراق اوقف تطوير اسلحة الدمار الشامل خلال التسعينات بسبب حصار الامم المتحدة، انما، وحسب كاي ايضا، لم يجرؤ احد من العراقيين المعنيين على ابلاغ صدام حسين بأنه لا يملك اسلحة دمار شامل، وانه بسبب العزلة الفعلية التي كان يعيشها الاخير، نجح العلماء العراقيون بخداعه بقولهم إنهم ينتجون تلك الاسلحة، في وقت كانوا يسرقون الاموال الضخمة التي رُصدت للإنتاج!

نظرية أغرب من الخيال، لأن صدام حسين حكم طيلة ثلاثين سنة تقريبا بفضل اجهزته الامنية التي رأينا نتائج اعمالها، إنْ كان في غرف التعذيب او المقابر الجماعية، والتي سارت على مبدأ: اقتل اولا ثم اطرح الاسئلة. فاذا كان ما يقوله ديفيد كاي عن علماء العراق حقيقة، وأنهم خدعوا صدام حسين واجهزته، وسرقوا الاموال وظلوا أحياء، فأقل ما يمكن مكافأتهم عليه هو الاستعانة بهم اميركيا، بعدما تبين ان الاجهزة الامنية الاميركية بدورها خدعت الرئيس الاميركي، لانها لم تكتشف ان العلماء العراقيين كانوا يخدعون صدام حسين ويوهمونه بأن ترساناتهم مليئة بأسلحة الدمار الشامل!

ربما الذي ساعد كاي على طرح هذه النظرية، وساعد قبله الادارة الاميركية من رئيسها ونائبها ووزير خارجيتها، الى التأكيد أن العراق يملك هذه الاسلحة الى درجة «اقتنع» بها رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير، هو أن صدام حسين تصرف وعن قصد بطريقة توحي بانه يملك كل نوع من هذه الاسلحة، فهو رفض الكشف عن الوثائق ومنع المفتشين لاحقا من القيام بمهمتهم المطلوبة، الى درجة ان رئيس فريق التفتيش الدولي، هانز بليكس، المعارض للحرب، انتقد وبشدة مراوغات صدام حسين الذي تصرف كمن يخبئ شيئا.

لكن كل هذا لا يمنع من السؤال عن مصير المصداقية الاميركية، ومدى نجاح أجهزتها الامنية في اكتشاف أو قول الحقيقة..

من المؤكد أن لعبة الأمم عادت الى التأجج.