المناهج .. وتشكيل الوعي

TT

سأبدأ بهذه العبارة الجازمة ـ توهمنا المناهج التعليمية اننا نعيش في عصر ازدهار الحضارة الاسلامية ـ اي في العصر الذهبي للدولة العباسية ـ نعم، هذا ما تفعله المناهج التعليمية في ذهنية الشاب من خلال ما تراكمه من نوعية معرفية، تطبعها الخطابية سواء بقراءتها التبجيلية للماضي، او بقراءتها الاطرائية المجاملة للواقع. من خلال هذين المسارين الخاليين تماما من اية قراءة نقدية، يبنى ويتشكل الكثير من المادة المعرفية المطروحة من خلال العملية التعليمية وفقا لمنهجية التعليم السائدة، مما يكون عاملا حاسما في تخلق تلك الذهنية المطمئنة لمعطياتها الذاتية الى درجة الوثوقية المطلقة في كمال ذاتها، بل نقص ما لدى الآخر في كل شيء. ونتج عن هذا الفهم الخاطئ الترفع عن استشكال النواقص الحضارية (بشقيها الفكري والمادي)، والوقوع في ادعاء الندية غير المتكافئة مع الآخر. وحيث تكثف المناهج من شحنة العاطفة حيال منجز الماضي، وتجامل منجز الحاضر، فإنها تكرس من خلال مادتها المعرفية لهذه النظرة المترفعة، والتي اعتقد انها سبب مباشر في الابتعاد بمضمون التحدي والندية والتنافس الحضاري من ميدان استشعار جوانب النقص لدينا والعمل على تداركها، الى ذلك الميدان الملتبس الذي قد يجنح ببعض الذهنيات الى ميدان النزال والصدام الحضاري الذي يستلهم جولات النصر والفوز من معطيات تاريخية معزولة عن سياقها، ويتوخى توظيفها لتحقيق المضي في «معركة» التحدي المعاصرة. وهذا لا يعني اننا نحمل المناهج وحدها ما قد يحدث من الانحرافات والاخفاقات، لكننا فقط نتوخى وضعها بما يتفق مع اهميتها، كاحدى المنظومات الرئيسية الفاعلة في تشكيل المجتمع في قيمه وتوجهاته. وحقيقة الامر انه ليست المناهج وحدها هي التي تسير في هذا السياق، لكن ما للمناهج من دور ريادي وتأسيسي في تكوين تلك العقلية النزالية وجب التركيز عليها مباشرة. اذ تعمد المناهج من خلال مادتها المعرفية الى قراءة التاريخ قراءة تبجيلية مفرطة في الاطراء، ومتغافلة في الوقت ذاته عن جوانب النقص والقصور، وهذه المنهجية المعرفية تتعدى مراحل التكوين والتأسيس لتشمل جميع مراحل التعليم، ولا غرابة اذا تخلقت من هذه القراءة التبجيلية المهادنة تلك المزاجية المعرفية المتواطئة مع النفسية المتأزمة والمغبونة في صراع المصالح الدولي، والذي يستحيل وفقا لآليتها الفكرية الى صراع وحيد هو الصراع الآيديولوجي، زاعمة انه ميدان سجالها الحقيقي.

ومع الاخذ في الاعتبار لعدة عوامل تاريخية وجغرافية ودينية، إلا ان ذلك لا ينفي مسوغ التساؤل عن اسباب وضوح مجالات المنافسة والتحدي في الثقافة اليابانية بحيث تم توظيف هذا الادراك في مجالات السبق العلمي والتقني وتحقيق الازدهار الاقتصادي، بينما ابتعد سياقنا النهضوي عن مجالات المنافسة العلمية والاقتصادية، وتلك ميادين رحبة ومتاحة، لا تزال معانيها على قارعة الطريق تنتظر من يصوغها في خطة نهضوية تستنفر الطاقات للأخذ بأسباب التقدم والنجاح في سجال التحدي الحقيقي. فهل يمكن ابراز هذا المنظور في ثقافتنا من خلال مناهج التعليم؟

وغياب المنظور النقدي من المادة المعرفية المبسوطة في المناهج يتجلى في ان الطالب ينهي جميع مراحله التعليمية وهو لم يتلق اي مضمون معرفي يشير من قريب او بعيد، برؤية نقدية، الى اي مجال شابه التقصير او لم يلق العناية المطلوبة على صعيد المنجز تاريخيا رغم وجود امثلة لذلك في مجالات كثيرة، وهو امر مقبول في سياقات التطور الحضاري، الا ان طرحها ومناقشتها موضوعيا من خلال المناهج التعليمية، وبحسب المستويات التعليمية، امر له ابعاده التربوية فيما اعتقد من حيث التأسيس لعقلية منفتحة ومتسائلة تسعى للاجتهاد والتطوير والابداع. فعلى سبيل المثال، تخلو تجربة الحضارة الاسلامية على الرغم من اتساعها مكانيا وزمانيا من تطوير في الآليات المالية وادوات الفكر الاقتصادي، كما تكاد تخلو من التطوير في مجال الفكر السياسي، وغاب التخطيط عن مجالات العمل الاجتماعي، ومجالات البحث المعرفي، بل ان كل انجاز سجله التاريخ قد تم بمبادرات فردية، هذا مع ان الاسلام قد حث على التعاون والاجتماع والتشاور، متجليا ذلك في تعاليمه وشعائره، بل ان الاجماع احد مصادره التشريعية.

اما على صعيد تعامل المناهج مع الواقع فإنها تتبنى استراتيجية الابهار وارضاء الذات حيث تعمد الى التركيز فقط على جوانب الانجاز وتضخيم صورتها والتغافل عن جوانب الاخفاق والقصور والاحتياج، وهذا يؤدي الى تشكيل ذهنية ملتبسة وغير قادرة على استشكال اسباب وقوفنا في المواقع الخلفية في مسار التقدم العالمي المعاصر، مما يحمل على الالتباس في تفهم مواطن التحدي المطلوب، وذلك لأن المناهج لا تساعد في تحديدها وتلمسها، وبالتالي يحصل الانحراف عنها كمطلب حقيقي. ولا اعتقد اننا نجافي الحقيقة اذا ما قلنا اننا نعيش عالة على الآخر في جميع مظاهر الحياة المعاصرة، وما نحن الا مستهلكون لفكر الآخر المتقدم ومنتجاته. ومع اهمية هذه المسلمة في ايقاظ الفكر لانتهاج المسار الصحيح، الا انها تتوارى خلف الاعتداد المبالغ فيه بمنجزات الماضي، ويتلاشى وهجها ازاء مجاملة احلام الحاضر، لذا لا نجد لهذه المسلمة حضورا فاعلا في توجيه المادة المعرفية التي تتضمنها مناهج التعليم. وفي اعتقادي انه لن تضار المواطنة الصالحة ولا سلامة الانتماء اذا ما تضمنت المناهج اضاءات حافزة تساعد على تشخيص مظاهر تخلفنا في مجالات عدة، وبحيث تتوزع هذه الجرعات المعرفية على جميع مراحل التعليم وبأسلوب تربوي تنويري يساعد الشاب على رفع الالتباس في تحديد اولويات وحاجات امته ومصالحها ولتكون عونا في توجيه طاقاته الذهنية والبدنية للمجالات التي تخدم بناء الوطن وتشعره بمسؤولية المشاركة البناءة في مضمار المنافسة العالمية، وكذا فهي اضاءة مساعدة على استشراف حقول التخصص، وميادين البحوث، وفرص العمل، التي يحتاجها الوطن. ولا شك ان طرح المنظور النقدي من خلال المادة المعرفية التي تتضمنها مناهج التعليم لهو بكل تأكيد من العوامل المؤسسة لعقلية الحوار في ذهنية الشاب بحيث تتأسس لديه القدرة على تقبل الآراء، وان اختلفت، والقدرة على مناقشتها والاخذ منها والرد. ان احد اهداف التعليم، تكوين عقلية مستنيرة قادرة على استبصار الحقائق بفكر منفتح مستوعب لمعطيات العصر وتحدياته. أجزم انه يمكن تلافي الكثير من الانحرافات الفكرية التي تتسبب في ضبابية الرؤية لدى البعض مما ينعكس احيانا كتوجهات وتحديات تصادمية، وذلك اذا ما استبطنت مناهج التعليم مادة معرفية تساعد على تشكيل ذهنية واعية بأسباب تخلفها واسلوب علاج ذلك التخلف، بولوج معترك النضال الايجابي الذي يحفز على العمل بعقلية مستبصرة بمعطيات العصر ومجالات المنافسة المتاحة والتي اوصلت الدول المتقدمة الى ما حققته من تقدم في جميع المجالات. ولعل مثل هذا التشخيص، ان صحت معطياته واستنتاجاته، يضيف رؤية جديرة بالدراسة والمناقشة تجاه المطروح فيما يخص تطوير المناهج.

* كاتب سعودي